زيزي إسطفان

"التتخيتة" كنزٌ لا يفنى

القلّة تولِّد الابتكار وتُعيد العزّ إلى حِرَف منسيّة

16 تشرين الثاني 2020

02 : 05

" ما تكبّ شي بقلّك الدهر هاته" مَثل كانت عمتي تردده قديماً على مسامعنا ولم نكن نعرف حينها الدهر ولا عثراته، كنا نضحك من رائحة "النفتلين" المنبعثة من ثيابها العتيقة المحفوظة في شنط قديمة، ملابس لم تكن لتتخلى عن اية قطعة منها ولو تخطت موضتها بعقود... ودار الدهر دورته وألقى بظلاله الاقتصادية الثقيلة على حياتنا فصرنا اليوم نترحم على عمتي "الدبّيرة" التي احترفت إعادة التدوير قبل أوانها وصرنا مثلها نفتش عن قديمنا ونبحث عن خياط او كندرجي او "رتّى" يعيد إلينا ما كان.



ليس زمن النوستالجيا ولا الـ vintage إنه زمن "التتخيتة" ومعها الـ cave وظهر الخزانة وكل المخازن المنسيّة... نعود إليها علنا نجد فيها ما يمكن للعطار أن يصلحه بعدما أفسده الدهر الفاسد. أشياؤنا القديمة ما عادت قديمة صارت كنزاً لا يفنى نعيد إحياءها لتخدمنا في زمن القلة. احذية، ملابس، قطع اثاث مهملة وغيرها الكثير مما لم يطاوعنا قلبنا على التخلص منها نخرجها من اكياسها العتيقة ونحملها الى من بحرفته ومهارته قادر على تجديدها. تتخيتتنا تعيد العز الى حرف كدنا ننساها، وتعيد عجلة الحرفيين الى الدوران. "زنطرة" ايام زمان ولّت، وولّت معها صيحات الموضة التي تحولت صيحات وجع من الأسعار التي ما عادت تحتملها جيوبنا الفارغة. في جولة على بعض الحرفيين وأصحاب المهن تعرفنا على واقع جديد لم يألفه اللبناني في العقود الثلاثة الماضية.



صرامي قديمة



الكندرجي وإعادة التأهيل

معلم أمير علي بلال كندرجي على الطريقة القديمة، محله ليس مصنعاً ولا محترفاً انما هو دكان صغير مليئ بالأحذية المكدسة فوق بعضها بانتظار ان يتمكن من إصلاحها وتغييرها. نسأله عن الشغل فيجيبنا بان لديه فيضاً من التصليحات وكأن الناس قد استفاقوا فجأة على أحذيتهم القديمة وباتت النساء خصوصاً يجلبن إليه سكربينات قديمة عمرها فوق العشر سنوات كن قد رمينها، طالبات إعادة تأهيلها الأمر الذي لم يعهده سابقاً. "تأتيني قطع "مهرهرة"، يقول معلم أمير، وأخرى تحتاج الى تصليحات بسيطة وثالثة جديدة يود اصحابها تعديلها او تغيير لونها. وثمة زبائن جدد لم اكن اراهم من قبل. يدخل المحل اشخاص "معترون" يودون تصليح أحذيتهم وجزادينهم القديمة لحاجتهم إليها بعد ان صار سعرها في السوق ناراً حارقة، وأشخاص "زناكيل" يأتون حاملين أغراضهم الثمينة ذات الماركات الغالية للحفاظ عليها بعدما بات صعباً الحصول على قطع مشابهة. لكن القاسم المشترك بين الجميع هو "المجادلة" على السعر.

في الماضي يقول معلم أمير كانت القطعة تكلّف 5000 ليرة فيرمي الزبون 20000 ويمضي، اليوم كلهم "يشارعون" على الـ 10000 وأحياناً يأخذون أغراضهم من دون أن يدفعوا. نحاول قدر الإمكان ألا نزيد الكلفة على الزبائن حتى يستمر الشغل ولكن سعر المواد والبضائع تضاعف ثلاث مرات ونحن لم نرفع اسعارنا بقدر التكلفة. "التظبيط" ما زالت اسعاره في متناول الجميع: كعبيّة، نص نعل، لصق، درز، تغيير بِكل، كلها تصليحات بسيطة تكلف ما بين 10 الى 25 ألفاً. وقد تصل الى حدود 60000 كحد أقصى للحذاء الرجالي الذي يحتاج الى كاوتشوك من الأمام والخلف... اما التجديد فهو مكلف أكثر ويتطلب وقتاً وجهداً لإعادة الشباب الى قطعة قديمة سكنت التتخيتة لسنوات ولم يكن أحد ليفكر بإعادة تأهيلها لولا الظروف الزفت التي نعيشها. الناس انبرت نعالهم ركضاً وراء لقمة عيشهم.

بهذه الكلمات البسيطة يختصر الحرفي واقع اللبنانيين الذين وجدوا أنفسهم مضطرين للتخلي عن اسلوب حياة عهدوه ليعتادوا على نمط تقشف فُرض عليهم رغماً عنهم وطال مختلف أوجه حياتهم من البابوج الى الطربوش.



تقصير وتطويل



عودة الى الترقيع

وإذا كانت الأحذية تخضع لعمليات تحسين وترميم فالملابس صارت مع رحيل الماركات العالمية وارتفاع سعر البضائع المحلية قطعاً عزيزة نحافظ عليها بدمع العين.

أمل يعقوب خياطة نسائية احترفت التصليح والترميم لكنها تشكو من تراجع الشغل في زمن الكورونا لأن الناس ما عادوا يخرجون من منازلهم لإصلاح ملابسهم لكن في المقابل باتوا يرون اموراً جديدة كانوا يسمعون عنها في بعض الدول لكنهم لم يتخيّلوا يوماً أن تحدث في لبنان. زبائن يحملون إليها شراشف وتكايات وبرادي ممزقة تحتاج الى ترقيع بعد أن كانوا يبادرون سابقاً الى رميها وشراء بدائل عنها ورجال يأتون بقمصانهم الرسمية لقلب قباتها المتآكلة. في الصيف الماضي تقول امل عندما انحسرت قليلاً موجة الكورونا اشتغلت على تعديل فساتين السهرات والمناسبات التي استعارتها النساء من صديقاتهن عوض شرائها، حملنها إلي لتعديل مقاسها حتى تناسب أجسامهن. وتقسم أمل أنها لم تعمل على فستان جديد طوال الموسم، فإما فساتين مستعارة او أخرى قديمة يتم تعديلها وتجديدهـــــا لتتمكن النساء من ارتدائها في مناسبة تخصهن.

قبل الكورونا وقبل انهيار الليرة كانت الخياطة تعمل حتى ساعة متأخرة من الليل حتى تلبي زبائنها. فالخير موجود بين أيدي الناس والكل يشتري بلا وعي كما يقال. كانت القطع الجديدة تنهال عليها من محلات بيع الألبسة كما من الزبائن ولم تكن "تلحّق": تقصير، تطويل، تضييق، توسيع أو تعديل لبعض التفاصيل. ولكن اليوم كل شيء اختلف. تراجع الشغل على القطع الجديدة وانحصر معظمه في قطع قديمة بحاجة الى تصليحات بسيطة او تحتاج الى تعديل وتجديد، حتى الترقيع الذي كان يعتبر تهمة في الماضي أو إجراء اضطرارياً عاد ليأخذ مكانه على بعض الملابس لا سيما جينزات الصغار وبناطيل التلاميذ.

اسعار التصليحات ارتفعت بشكل طفيف لا يعادل ارتفاع اسعار المواد من خيطان وسحابات ومطاط وغيرها وعلى الرغم من ذلك هناك من يجادل على السعر أو يأخذ أغراضه ويمضي منكسراً لا قدرة له على تصليحها.

نعم إنه واقع صادم قد لا نصدقه ولكنه يعكس ما آلت إليه حال كثير من اللبنانيين ومن السوريين والعراقيين الذين يعيشون في لبنان، فالأزمة طاولت الجميع وزادت الفقير فقراً وتعتيراً وفتحت أمام الطبقة المتوسطة باب العودة الى تدابير تقشفية قديمة "لتسيير" أوضاعها وحفظ ماء وجهها.



تنجيد



تـصـلـيـح مـن دون تـغـيـيـر

إثر انفجار المرفأ كثرت إعلانات الـ"غاليريات" التي تعرض مفروشاتها باسعار تشجيعية، ولكن من يدقق في هذه الأسعار مع تخفيضاتها يجد ان اصغرها يبدأ من مليونين وما فوق ليصل الى آلاف الدولارات... كثر من المتضررين وغيرهم وجدوا الحل في العودة الى التنجيد لترميم القطع المتضررة وتأهيل القطع القديمة.

معلم عدي منجّد عربي وإفرنجي أخذ المهنة عن ابيه وافتتح له في لبنان محل تنجيد عربي صغيراً. نسأله عن إقبال اللبنانيين على التنجيد يحار في الجواب، ليس إقبالاً بل انه أمر واقع اضطروا اليه، يقولها بوضوح، من تخرب عنده قطعة اثاث اليوم يجد صعوبة في استبدالها اما المتضررون من الانفجار فليس أمامهم سوى إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى في منازلهم. الكنبات، كراسي السفرة، الستائر وكل ما هو قابل للتصليح يعاد تأهيله. بعضهم يؤجلون الأعمال لأن الوقت ليس وقتها الآن ولكن المضطرين يفضلون ترميم مفروشاتهم القديمة على شراء اية قطعة جديدة وإن ارتفعت اسعار التنجيد بشكل ملحوظ.

مثله مثل كل الحرفيين يشكو عدي من غلاء البضائع من اقمشة واسفنج وروسورات وخيطان ما أجبره على رفع الأسعار لكن الربح لم يعد كما في السابق، والشغل تراجع فوحده المضطر يقصده. اما التنجيد العربي اي تنجيد اللحف والفرش والمخدات الصوفية والقطنية فله زبائنه الذين لا يرضون عنه بديلاً ويعتبرونه تقليداً سنوياً في آخر كل شتاء.

وتنتهي جولتنا على الحرفيين الذين استعادوا موقعهم على خريطة حياة اللبنانيين ولم نكن بحاجة لنسأل الناس، فنحن منهم واغراضنا تنتظر اللحظة المالية المناسبة لتنزل عن ظهر الخزانة وتأخذ طريقها الى الإصلاح والتغيير...


MISS 3