عيسى مخلوف

وقفة من باريس

العصر الحجريّ... على مَرمَى حجَر

24 آب 2019

11 : 00

"غابة الأمازون لنا وليست لكم"، قال رئيس البرازيل اليميني المتطرّف جايير بولسونارو، ردّاً على انتقادات قادة الاتحاد الأوروبي بشأن سياسته الخاصّة بالبيئة وانقضاضه المدمِّر على الغابة التي يسمّونها "رئة العالم". وكان "المعهد الوطني لأبحاث الفضاء" أكّد أن تدمير غابات الأمازون ارتفعت نسبته، حتى أواخر الشهر الماضي، إلى قرابة ثمانين بالمئة مقارنةً مع الفترة نفسها من العام الفائت. والنار الموسميّة المشتعلة في الغابة منذ أكثر من أسبوعين، ثمّة من يربط اتّساعها بسياسة الرئيس البرازيلي الذي يعمل يوميّاً على إضعاف المؤسّسات البيئيّة، وتحويل مناطق بأكملها إلى مراعٍ وأراضٍ صالحة للزراعة.

مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية الأسبوعية اختارت العنوان الآتي لأحد أعدادها الأخيرة: "احتضار غابة الأمازون"، بينما دقّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ناقوس الخطر: "بيتُنا يحترق". فما تشهده هذه الغابات الآن سيترك، بحسب العلماء، آثاراً سلبيّة على العالم أجمع، وسيضاعف تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري. وهذا ما سيؤدّي إلى مزيد من الجفاف والتصحُّر، وتلوّث الهواء والماء، وذوبان كمّيات كبيرة من الجليد المتواجد في المناطق القطبيّة وارتفاع سطح المحيطات والبحار. وكانت أيسلندا احتفلت هذا الشهر بذكرى اختفاء أوّل كتلة جليديّة ضخمة بسبب ارتفاع الحرارة، للفت الانتباه إلى مسؤوليّة البشر. وهناك تحذير من اختفاء الكتل الجليديّة الباقية هناك، وتبلغ الأربعمئة كتلة، في غضون مئتَي عام.

لا تنحصر المشكلة في سياسة الرئيس البرازيلي وحده فقط، فالدول الصناعية المتقدّمة، التي يدعو بعضها الآن إلى الحدّ من عملية قطع الأشجار في الغابة الاستوائيّة الأكبر، هي الأكثر تلوّثاً في العالم، ولا تتوصّل إلى حلول فعليّة في مؤتمرات المناخ العالمية، ومنها خفض الانبعاثات الحراريّة. ومن المعروف أنّ الصناعة بشكل عامّ، لا سيّما الصناعة العسكرية والحربية التي تقوم بها تلك الدول ينجم عنها انبعاث كمّيات كبيرة من غاز ثاني أوكسيد الكربون.

الدول لا تعنيها إلاّ مصالحها الخاصّة والاستمرار في خوض حروبها الاقتصاديّة، ولا تهتمّ بمصير الأرض ومن عليها، أمّا الجماهير، سواء التي انتخبت الرئيس البرازيلي المتطرّف أو غيره من الزعماء الجهلة بشؤون البيئة والأرض والإنسان، غير واعية لخطورة ظاهرة الاحتباس الحراري، ولا تعنيها غابات الأمازون، سواء نُحرَت بالطريقة التي تُنحَر بها اليوم، أم ظلّت في مكانها تؤدّي وظيفتها الأبديّة منذ ملايين السنين.

عشرون بالمئة من سكّان العالم يستهلكون ثمانين بالمئة من مجموع موارد الأرض وثرواتها، والهوّة تكبر وتتّسع بين أهل الشمال وأهل الجنوب. الشاشات الصغيرة تنقل يومياً صور العالم في وجهَيه المتناقضين: من جهة، هناك حياة البذخ والطائرات والأعراس الملكيّة وأخبار الذين يستعرضون، مبتهجين، ثراءهم ولا يعرفون ماذا يفعلون بفائض أموالهم، ومن جهة ثانية، هناك الغارقون في البؤس، الباحثون في حاويات النفايات عن كَسرة خبز.

نحن في عالم لا تحرّكه مفاهيم العدالة بل المنافسة والسلطة والاستئثار، أي استمرار الحروب والعبودية. الذين يأخذون العالم دائماً في هذا الاتجاه لا يدركون، أو ربّما يدركون، أنّ استباحة الأرض إلى هذه الدرجة سيكون ثمنه التضحية بالأرض نفسها.

إذا كان التطرّف الديني والمدني لا يولّد إلاّ الكوارث، فإنّ التطرّف الاقتصادي اليوم، والذي لا يؤمن إلاّ بقانون واحد هو قانون السوق، قانون المال والربح والمردوديّة المادّية، هو الأكثر خطورة لأنه يأخذ العالم برمّته إلى الهاوية، وليس فقط بقايا السكّان الأصليين في البرازيل، ومن تبقّى من الهنود الحمر في الغابة، أولئك الذين تختصر خطبة سياتل الشهيرة علاقتهم بالأرض وعناصرها، نعود إليها تكراراً ونتمتم بعض كلماتها بصمت كصلاة: "كلّ صنوبرة ملتمعة، كلّ شاطئ رمليّ، كلّ سحابة في الغابات المظلمة، كلّ فُرجة مضاءة وكلّ طنين حشرة، كلّها جميعاً مقدّس في ذاكرة شعبي وتجربته"...

لا يزال بإمكان الإنسان أن يتخيّل عالماً آخر أقلّ عنفاً وأكثر عدلاً، وأكثر قدرة على مواجهة الصعوبات والتحديات، لا الاستسلام لها بصفتها قدراً. يقول الباحث الفرنسي، المتخصّص في علم الأحياء والوراثة، ألبير جاكار: "لا نملك أجنحة، لكننا استطعنا أن نحلّق أكثر، وأن نطير بسرعة أكبر من الطيور كلّها". لذلك تحتاج البشرية اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، إلى توجّه آخر وإلى مسار جديد. تحتاج إلى استعمال إمكانات التقدّم العلمي والتكنولوجي في اتجاهات أخرى غير التي تحصر سعادة الإنسان على الأرض بعمليّة الإنتاج والاستهلاك فحسب. لكن، إذا استمرّت إدارة العالم وفق النسق الاقتصادي الراهن، فهذا يعني أنّنا في طريق العودة إلى أقصى حدود التوحُّش، بل إلى التخلّف الحضاري الكامل، كما وصفه الكاتب الإنكليزي ألدوس هكسلي في كتابه "عالم جديد شجاع".

عودة الإنسان إلى العصر الحجري ليست بعيدة.

العصر الحجري... على مَرمى حجَر.


MISS 3