الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط... باقٍ

13 : 45

الجيش الأميركي على الحدود السورية - التركية في منبج
بناءً على عناوين الأخبار الشائعة، يبدو أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط خلال السنتين الأخيرتين تتسم بسلسلة من التحولات الجذرية. عارض ترامب السياسة الخارجية المبنية على "التدخل والفوضى"، ثم كثّف الضربات الجوية الأميركية من الصومال إلى سوريا. كما أعلن عن انسحابٍ كامل للقوات الأميركية من شرق سوريا في شهر كانون الأول قائلاً: "جميع الجنود عائدون، وهم عائدون فوراً"! لكنه عاد ليغيّر موقفه، فأعلن عن توسيع الانتشار العسكري في المنطقة للتصدي لإيران بعد ستة أشهر. في الوقت نفسه، انتقد تدخّل سلفه المفرط في الشرق الأوسط وضعفه هناك.أمام هذه الإشارات المتناقضة، تختلف التفسيرات التي يمكن إعطاؤها لمكانة إدارة ترامب في الشرق الأوسط.



رغم جميع العناوين الرنانة، يبقى الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط متماسكاً بدرجة مقبولة. ورغم نوايا الإدارة الراهنة التي اتّضحت في "استراتيجية الدفاع الوطني" للعام 2018 وشددت على إعادة تركيز الجيش الأميركي على المنافسة بين القوى العظمى، لا تزال الخطة الأميركية في الشرق الأوسط ثابتة نسبياً أو حتى دائمة.

صحيح أن بعض الشركاء القدامى في المنطقة حاول الإيحاء بـ "انسحاب" الولايات المتحدة من الشرق الأوسط لنشر تطمينات إضافية، لكن يخفي هذا الخطاب التقليدي عناصر غير متبدّلة من الخطة الدفاعية الأميركية. تبدّل جزء من الموارد المتحركة والقيّمة فعلاً في الشرق الأوسط، لكنه عاد إلى وضعه الأصلي في نهاية المطاف. على سبيل المثال، امتلأت الثغرات التي كانت تشوب انتشار حاملات الطائرات الأميركية المتواصل في المياه الخليجية على مر أشهر عدة نتيجة عودة مجموعة من الناقلات البحرية إلى المنطقة في شهر أيار.

منذ انسحاب القوات الأميركية من العراق، دعا الرئيسان الأميركيان المتلاحقان إلى إعادة النظر بالالتزام الأميركي في الشرق الأوسط. تكلم أوباما عن الحاجة إلى "تجديد التوازن"، ودعا ترامب إلى إعادة التركيز على المنافسة بين القوى العظمى. في غضون ذلك، لم تتغير معظم البنى التحتية العسكرية الدائمة والضرورية لانتشار الجنود الأميركيين على نطاق واسع. تحتفظ الولايات المتحدة بعشرات آلاف الجنود في 14 بلداً في المنطقة، منها قواعد في تركيا، والأردن، والإمــارات العربيـــة المتحدة، وقطر، والبحرين، والكويت. كما أنها تدير مهامّ تدريبية وجهوداً متواصلة لمكافحة الإرهاب في العراق وسوريا.

في بعض البلدان، يشهد الوجود العسكري الأميركي توسعاً ملحوظاً. هذا ما يحصل في الأردن حيث أدى الانسحاب المرتقب من سوريا وأحداث شائكة أخرى في المنطقة إلى زيادة ضمنية لكن بارزة في عدد المنشآت الأردنية التي يستعملها الجيش الأميركي. ورغم الشرخ القائم بين قطر والدول الخليجية المجاورة لها، وقّعت وزارة الدفاع الأميركية على اتفاق في كانون الثاني 2019 لبناء قاعدة "العديد" الجوية كي تصبح مقر القيادة الأميركية المركزية في المنطقة. في هذا السياق، ذكر مسؤول سابق بارز في البنتاغون حديثاً أن الشركاء الإقليميين "يحاولون باستمرار حثّنا على بناء المزيد من المراكز".

لكنّ التوتر الذي يطغى على السلوك الإيراني راهناً وتوسّع المخاطر المطروحة على الشحن الدولي في الخليج يثبتان حصول تحوّل جديد يتجه إلى إرساء هيمنة غير ليبرالية. صحيح أن الولايات المتحدة تسعى الآن إلى جمع قوات تحالف بحرية لحماية السفن التجارية التي تعبر مضيق هرمز، لكن عكست أولى خطوات إدارة ترامب نزعة إلى اتخاذ قرارات مباشرة وأحادية الجانب، بما يتعارض مع مبدأ الأمن الجماعي. في هذا الإطار، اقترح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في البداية أن تتحمّل بريطانيا مسؤولية سفنها التجارية الخاصة في المنطقة.

لكن لا بد من الاعتراف بتغيّر بعض جوانب الخطة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط. تزامناً مع تباطؤ الحملة الأميركية ضد "داعش"، تباطأت أيضاً الحملة الجوية التي بلغت ذروتها في أوج المعارك لاسترجاع الموصل والرقة. كذلك، شهد انتشار الناقلات المتواصل بعض التقلبات، ما أدى إلى ارتفاع أعداد القوات الأميركية حيناً وانخفاضها أحياناً في المنطقة. خلال السنة الماضية، سُحِبت بطاريات صواريخ "باتريوت" من الأردن والكويت والبحرين، لكن يُقال الآن إن العمل جارٍ على إعادة نشرها، إلى جانب 500 جندي أميركي، داخل المملكة العربية السعودية بعد غياب دام 15 عاماً. لكن رغم زيادة مرونة الخطة الأميركية الإقليمية بناءً على تكثيف جدول الخطوات المتناوبة، تثبت هذه التحركات الأخيرة أن الموارد المتحركة قابلة لإعادة الانتشار خلال فترة قصيرة.

إعادة النظر بوضع المراوحة

بصورة عامة، تجمع مقاربة إدارة ترامب في الشرق الأوسط بين خطة عسكرية ثابتة في معظمها وجهود ديبلوماسية ذات طابع شخصي وعسكري مفرط. يمكن أن تنتج هذه المقاربة علاقات ودّية ومكاسب تكتيكية لفترة، لكنها تجازف في المقابل بإنشاء توازن "أسوأ العالمَين"، ما يعني أن تدفع واشنطن عشرات مليارات الدولارات سنوياً لنشر القوات الأميركية في أنحاء المنطقة، بينما تقوم باستثمارات أقل كلفة بكثير في المجال الديبلوماسي، مع أن هذه الجهود تُخفّض احتمال أن تحتاج يوماً إلى استعمال تلك القوات. وفق هذا المنظور، تتعامل مجموعة فرعية صغيرة من الأميركيين مع مجموعة موازية من الحكام الإقليميين والعائلات الحاكمة والمسؤولين الأمنيين مقابل تهميش المجتمعات بالكامل. ربما تعكس هذه الفكرة درجة متطرفة من الواقعية، لكنها تبقى قصيرة النظر على الأرجح.ومن المتوقع أن تؤدي هذه المقاربة أيضاً إلى تفاقم مشكلة قائمة منذ وقت طويل ومرتبطة بالاتكال المفرط على الجيش باعتباره أداة محورية في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. حتى في أفضل الفترات الديبلوماسية، يدرك القادة الإقليميون جيداً التناقض القائم بين القادة العسكريين الأميركيين من أصحاب الموارد الوافرة، ونظرائهم الديبلوماسيين "الفقراء" نسبياً. وسيُكلّفهم أي تهميش إضافي للديبلوماسيين خسائر على مستوى النفوذ وسهولة التحرك والقدرة على المساومة، كما أنه يطرح الأوساط العسكرية والاستخبارية باعتبارها الجهات المؤسسية الأميركية الوحيدة في المنطقة.


تساؤلات وتكهّنات

يتساءل الجميع طبعاً عمّا سيحصل بعد عهد ترامب. سبق ورسّخت مقاربته مظاهر التسييس والعلاقات الشخصية في عدد كبير من الشراكات الأساسية، فتحوّلت العلاقات الثنائية التي كانت ثابتة سابقاً إلى زوائد مُلْحَقة بأكثر عهد رئاسي مُسبِّب للانقسامات في التاريخ الحديث. مهّد هذا الوضع لتصفية حسابات حتمية مع هؤلاء الشركاء على خلفية تصرفاتهم التي تخضع لمراقبته. لكن من خلال تسليط الضوء على أبرز الفرضيات المثيرة للقلق في الشراكات الأميركية الإقليمية، قد يقدّم ترامب فرصة مناسبة لإعادة النظر بشروط تلك العلاقات. في النهاية، يمكن أن تُحدِث مقاربة ترامب تغييراً حقيقياً في الخطة العسكرية الأميركية في المنطقة، فيزيد احتمال أن يتمسك خَلَفه بتلك التعديلات.يجب أن تفكر الإدارة المقبلة ملياً بكلفة متابعة التركيز على الشرق الأوسط بهذه الوتيرة المكثفة والعشوائية. تشكّل المراوحة الراهنة نهاية مسارٍ بدأ في العام 1980 مع ظهور "عقيدة كارتر" التي أعلنت أن أي "محاولة تطلقها قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج العربي ستُعتبر اعتداءً على مصالح الولايات المتحدة الأميركية المحورية، وسيُقابَل أي اعتداء مماثل بالوسائل اللازمة، بما في ذلك القوة العسكرية". غداة الغزو العراقي للكويت في العام 1990 وحرب الخليج اللاحقة، بدأت الولايات المتحدة تُرسّخ موقعها في منطقةٍ تستطيع الهيمنة عليها من دون رادع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. في المرحلة اللاحقة، شكّلت البنى التحتية هناك قاعدة داعمة للتراكمات التي مهّدت لحرب العراق والحرب غير المدروسة التي أطلقها الرئيس جورج بوش الإبن على الإرهاب. يجب ألا تستمر هذه المكانة إلى ما لانهاية.

استكشف خبراء دفاع، من أمثال ميليسا دالتون ومارا كارلين، خطوات تدريجية تتراوح بين استمرار وضع المراوحة بشكلٍ دائم، والمغادرة وزعزعة الاستقرار. وطوّرت كارلين هذه الفكرة بدرجة إضافية في صحيفة "فورين أفيرز" مع تامارا كوفمان ويتز، فكانت محقة حين حذرت من اعتبار تجديد التوازن عبر الانتقال من الاستثمارات العسكرية إلى الجهود الديبلوماسية بديلاً عن الخيارات الصعبة والأهداف الواقعية. يجب أن تُحدّد الإدارة المقبلة بدقة الخطوات اللازمة لمحاربة الإرهاب الجهادي، وردع إيران واحتوائها، والاستعداد لحالات طوارئ متنوعة.

في الوقت نفسه، يجب أن تُركّز أي إدارة جديدة على إعادة بناء القدرات الديبلوماسية والتنموية التي خسرها البلد في السنوات الأخيرة. صحيح أن الولايات المتحدة لن تغادر الشرق الأوسط في أي وقت قريب، لكن من الواضح أن وجودها هناك أصبح شائباً وغير متوازن كونه يبدّي الاعتبارات السياسية والشخصية والعسكرية على السلطة المدنية. يمكن أن تجد الإدارة الأميركية المستقبلية بدائل فاعلة عن النزعة العسكرية وخيار الانسحاب ثم تدرك أن الأوان قد فات! بعبارة أخرى، ستَرِث تلك الإدارة مكانة إقليمية تتأرجح بين آثار الماضي والرغبة في الرحيل...

MISS 3