إيفون أنور صعيبي

من "سيدر" إلى موازنة 2020...

الوعود السياسيّة جريئة في التضليل!

26 آب 2019

01 : 12

كثرة القوانين في بلد كلبنان تعني انعدامها! لدرجة انه لو حصل وعاد مونتسكيو وعاصر حكوماتنا المتعاقبة منذ ما بعد الطائف لغيّر نظرياته المشهورة في كتابه "روح القوانين"...فقانون وسيط الجمهورية (ombudsman) (2005) وقانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص (2017) لا يزالان حبراً على ورق رغم أهميتهما في المرحلة الراهنة. لمن غفل قانون وسيط الجمهورية فانه يجيز تعيين شخص يفاوض باسم الدولة. تقتضي وظيفته طمأنة المستثمرين وتسهيل معاملاتهم الادارية والبيروقراطية الفظيعة. اما قانون الشراكة بين القطاعين المذكورَين، فكان الاحرى به ان ينصب من ضمن أولويات الحكومة الحالية لا سيما المادة الثانية منه التي تنظم المشاريع المشتركة لقطاعات الاتصالات والكهرباء.



تتداول أوساط دبلوماسية ان المجتمع الدولي قد جدد رزمة شروطه للايفاء بوعود سيدر لئلا تقتصر هذه المرة على الاصلاحات المالية فقط بل لتطال زيادة على البنزين والـ TVA والاهم وقف دعم الكهرباء فوراً وزيادة التعرفة. هذا يعني ان كل التحايل لتمرير موازنة 2019 وتسويقها على انها خشبة الخلاص الاقتصادي باء بالفشل. اما موازنة 2020 ولو افترضنا انها ستحترم المهل الدستورية فانها ستعود وتطرح كل القضايا التي من شأنها أن تزيد حدّة الاجواء. وستظهر الموازنة المنتظرة بعد فترة المخاض الاليمة التي تسبق ولادتها. ان التدابير المتخذة والتطاول على جيوب الناس لم يثمرا النتائج التقشفية المرجوة. والنتيجة؟ يعاني لبنان من عجز هيكلي دائم. كذلك فانه يواجه على نحو مطرد مخاطر مالية متفاقمة، وايضاً هو يرزح تحت عبء مديونية عالية حيث تشكل خدمة الدين العام اكثر من ثلث الانفاق، فيما تزيد نسبة الرواتب والاجور عن 30%. هذه الارقام كلها تحتّم ايجاد السبل المناسبة لترشيد الانفاق العام منها ما هو متعلق بتغيير واقع "الشراء العام" في لبنان وتحديث القوانين الناظمة للصفقات العامة، اما التدابير الاخرى فتنحصر بالشراكة بين القطاعين العام والخاص.

في الاقتصاد الحديث تبرز الشراكة بين القطاعين العام والخاص كحلّ ربما الوحيد لاعادة احياء مؤسسات الدولة وتفعيل عملها وتطويره. وقد ترجمت الحكومة اهتمامها بتفعيل مبدأ هذه الشراكة عندما عرضت في اجتماع "سيدر" مشاريع من مختلف القطاعات لتنفيذها عبر الشراكة مع القطاع الخاص، كما انها التزمت في بيانها الوزاري منحَ هذه المشاريع الأولوية في برنامجها الاستثماري الممتد على 10 سنوات.

عن الموضوع يقول رئيس منظمة جوستيسيا الحقوقية المحامي بول مرقص ان "سيدر كناية عن عروض قدمها المجتمع الدولي للبنان لاعطائه رزمة قروض "بشروط ميسّرة" اضافة الى منح زهيدة. ليست هذه الشروط مفتوحة المدة لان الحكومات ترصد في موازناتها مبالغ للاقراض او تحتفظ بمؤونات واحتياطات لتوظيفها عبر شراء سندات خزينة لدول أخرى او توظيفها في قروض واستثمارات عالمية. كان الاحرى بلبنان ان يكون قد باشر فعلياً بتنفيذ الشروط التي فرضها المجتمع الدولي والتي اعتبرها "سيدر" اصلاحية بنيوية وقطاعية، غير ان ذلك لم يتم بعد. بالتالي فان المخاطرة تكمن في عدم جهوزية لبنان من جهة وفي عامل الوقت من جهة ثانية حيث تظهر امكانية سقوط صرف هذه المبالغ الواحد تلو الآخر قبل ان يتمكن لبنان من تنفيذ التزاماته". ويضيف مرقص "ما يهم في الوقت الراهن هو وضع استراتيجية للدولة في مختلف القطاعات كالصحة والتربية والنفط والغاز وغيرها...وعلى هذه الخطة ألا تتبدل مع تبدل الحكومات ولا مع تغيّر كل وزير وعليها ان تصدر بقوانين مع هامش تنفيذي للحكومات المتعاقبة. اي ان ذلك يكون شبيهاً بما ورد في اعلان فيينا للامم المتحدة. اذاً هذه الشروط ليست موضوعة من قبل سيدر بل انها مشترطة من اجل بناء الدول التي تخرج من مآسٍ ومن حروب. وهي أيضاً مستقاة من الخطة الوطنية لحقوق الانسان. والاقتصاد، اسوة بحقوق الانسان، يجب ان ينهض بناء على خطة قطاعية استراتيجية واضحة وطويلة الامد لتحديد المبالغ المطلوبة والقوانين الملحة والمؤسسات المراد انشاؤها ام الغاؤها او تعديلها. ما حصل ليس سوى بضعة تشريعات صدرت على نحو متفرق وكان عليها ان تكون متكاملة غير انه وللاسف لم تطبق".

بتاريخ 7 أيلول 2017، أقر مجلس النواب قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص (رقم 48). يجيز القانون الذي طال انتظاره تطبيق عقود الشراكة من دون أي استثناءات. وبرغم ان المادة العاشرة من القانون تنص على توزيع المخاطر الناجمة عن إقامة المشاريع بين أكثر من طرف، هم أطراف الشراكة أي القطاع الخاص والقطاع العام، الا انه قد يكون من الصعب ضبط الامر بسبب افتقار الدولة للمؤهلات المطلوبة للاشراف على سير المشاركة مع القطاع الخاص خصوصاً مع فساد الطبقة السياسية وعدم ثقة الشعب بها، الأمر الذي"قد" يجعل دورها رهينة الفوضى والفساد والمحسوبيات من جهة والشركات من جهة ثانية. لكن المادة الثانية منه تحدد أطر تنظيم هذه الشراكة الى حلّ المعضلات في أكثر الملفات سخونة: الكهرباء والاتصالات.

من حيث المبدأ، يمكن أن تؤدي ثقافة التعاون بين القطاعين العام والخاص الى "التكامل" خصوصاً وان كل قطاع يزخر بمزايا يفتقدها الآخر. ومع عقود الشراكة، يصبح المشروع ذا منفعة عامة، يساهم فيه القطاع الخاص عن طريق التمويل والادارة والتجهيز فيما تعود ملكية "الاصول" للدولة والمؤسسات العامة. وتبنى الشراكة على أساس تشارك فعلي، وحوكمة جيدة، ومساءلة شفافة ومنفعة متبادلة. ويكون الهدف من ذلك تطوير البنية التحتية شبه المنهارة، بدءاً من شبكة الطرق والمرافئ وسكك الحديد والمطارات والطاقة وليس انتهاء بالاتصالات والكهرباء والماء والحدائق والصحة والتعليم... ولكن ونظراً للنهج الذي اعتُمد ولا يزال من قبل الطبقة السياسية الحاكمة وميلها الى الالتفاف الدائم حول القانون لزيادة "ثرواتها الخاصة" والسمسرات وتوظيف "الازلام" (تماماً كما حصل في شركتي الاتصالات وغيرها من المجالس التي قد تكون اكثر اغراء)، فان الغالبية من اللبنانيين تتخوف من استغلال "بوابة" الشراكة بين القطاعين كمنفذ مقونن للهيمنة على ما تبقى من موارد في البلاد.

عن الموضوع يرى الامين العام السابق للمجلس الاعلى للخصخصة والشراكة زياد حايك أن"من المفترض ان يشكل هذا القانون أولوية بالنسبة الى الحكومة لاعتباره من اهم القوانين وأفضلها لكنه في لبنان يطبق استنسابياً. ورغم ان الاطراف السياسية كافة متفقة على اهمية الشراكة لتنفيذ شروط سيدر من جهة كما وللنهوض بالاقتصاد من جهة أخرى الا انها تتهرب في احيان كثيرة من تطبيق القانون".

اذاً، لم يعد مبدأ الشراكة مرفوضاً حتى في الأنظمة المتزمّتة اقتصادياً، وهي بمعظمها بدأت تسعى الى تغيير هذه النظرة بحيث بات عدد كبير من هذه الأنظمة يشجع الاستثمارات المبنية على الشراكة بين القطاعين العام والخاص كما هي الحال في الصين على الرغم من كونها محكومة من الحزب الشيوعي.لكن وبالنظر الى النماذج اللبنانية لا سيما نموذج الكهرباء والقانون 129 الذي لا يلحظ أي دور للقانون 48 (تنظيم الشراكة بين القطاعين) دعونا ننسَ أموال سيدر ولنطو هذه الصفحة الى غير رجعة ولنركز على سبل تخطي العقوبات وتجنب خفض تصنيفنا الائتماني وانهيار منظومتنا المالية...


MISS 3