عيسى مخلوف

تحيّة إلى شفيق عبّود

5 كانون الأول 2020

02 : 00

غالباً ما كنّا نلتقي، طوال الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، في ذلك المُحترَف الكائن في الطابق الأرضي من المبنى الذي عاش فيه قرب حديقة "مونسوري". كان يجلس قُبالة مدفأة قديمة ويبدأ لفّ سيجارته. يدخّن قليلاً وهو يريني آخر أعماله. يتركني أمام خطوطها وتدرُّجات ألوانها ويذهب نحو ركن يضع فيه، كالعادة، ركوة القهوة التي حملها معه من لبنان. يصبّ محتواها في فنجانين صغيرين تعبق منهما الرائحة الزكيّة المحمَّلة بالذكريات.

كان محترفه مغلقــــاً كمغارة. نوافذه الوحيدة كانت اللوحات الموزّعة على الجدران. النافذة الأكثر نوراً هي اللوحة التي تكون قيد الإنجاز. ودائماً كانت ثمّة لوحة قيد الإنجاز يأتي إليها في الصباح كأنه على موعد معها. ينسج حياته الفعلية داخلها فيما هو يرسم. وكلّما عمل عليها وغاص فيها، ازدادت اتساعاً وأصبحت مقاساتها بلا حدود.

كانت اللوحة هي وجهه الحقيقي، يختبئ وراءها ويتماهى معها. كانت وطناً بين وطنين، لبنان الذي ولد ونشأ فيه، وفرنسا التي جاءها طالباً عام 1947. وطالما أقرّ أمامي بأنه كان يرغب في أن يوزّع حياته بين هذين البلدين، وهذا ما فعله حتى اندلاع الحرب الأهلية العام 1975، حين شعر بصعوبة الرهان على بلد أنهكته الطوائف والحروب.

شفيق عبّود أحد الروّاد الذين بدأت معهم المغامرة الفعلية للفنّ اللبناني الحديث. منذ مجيئه إلى باريس، انفتح على التجارب الفنية الجديدة وكانت العاصمة الفرنسية آنذاك مركزاً أساسياً لها، مثلما كانت مسرحاً لتحوّلات أدبية وفلسفية وفكرية. ولقد عاش اختبارات تلك المرحلة وأسئلتها، ورافقت تجربته ما عُرف، بين الخمسينات والستينات، بالتيار التجريدي الغنائي كما تبلور داخل "مدرسة باريس". في هذه المرحلة، أحسّ أيضاً بلقاء عميق مع الفنان الفرنسي بيار بونار لدرجة أنه اختصر علاقته به بقوله: "كلّما طالعني عمل من أعماله ظننته نتاجي الشخصي".

كان عبّود يروي لنفسه حكايات فيما كان يرسم. وكانت حكاياته مُضمَرة تتداخل فيها الطبيعة والحبّ، الأعشاب والأزهار، الأسرَّة والستائر. يعرفها بتفاصيلها الدقيقة لكنه لا يترك لنا إلاّ ما يشي بها من بعيد. يقول: "طوال حياتي كنتُ أرغب في رواية حكايات داخل العمل الفنّي. أحبّ اللوحة التي تحمل، في مكان منها، حكاية". لكن الحكاية غالباً ما كانت تمحو نفسها وراء تقنيات العمل والموادّ التي يتألّف منها، فلا يبقى إلاّ التناغم العميق بين كافّة العناصر والمكوّنات.

على الرغم ممّا وصل إليه المشهد الفنّي، وأمام "الانتصارات" المتتابعة لأنصار اللافنّ، ظلّ عبود يؤمن، حتى اللحظة الأخيرة من حياته، أن الفنّ لا يزال ممكناً، ولم يكن يوافق على بعض المحاولات العدميّة المتطرّفة التي تأخذ الحياة الفنية إلى طريق مسدود.

بالقرب من الحديقة المجاورة التي تخضع لحركة الفصول المتعاقبة، عاماً بعد عام، هناك حديقة أخرى كانت تنمو داخل محترف عبود، وكانت تزهر كقوس قزح بألف لون في كلّ عمل من أعماله التي تلفحها شموس لا تنطفئ.

آخر مرّة رأيتُ فيها شفيق عبُّود كانت في "غاليري كلود لومان" في باريس بمناسبة افتتاح معرضه الأخير. لمحتُه من بعيد، وهمَمتُ بالهرب. طلبتُ من أسادور وإيتيل أن نخرج على الفور ونشرب كأساً في المقهى المجاور. بعد دقائق معدودة، سمعتُ صوتاً قوياً جارحاً يناديني باسمي. التفتُّ إلى باب المقهى ووجدته واقفاً هناك، جامداً في مكانه. ثمّ رأيته يتقدّم نحوي بعَتَب كبير. لم أقبّله كما جرت العادة. وحين صافحتُه، شعرتُ بيده المتلاشية تُثقل يدي، وهي غير اليد الصلبة التي أعرفها. اليد التي لامست الضوء واللون طوال أكثر من نصف قرن.

في غضون أســـابيع قليلة، تغيَّرت ملامح وجهه، شحب لونه، وغارت عيناه في محجريهما وقد نضح منهما الخوف الذي لا يعرفه إلاّ من دنا، وهو في كامل وعيه، من تلك الحافّة.

أعود إلى شفيق عبّود اليوم بعد أن مررتُ أمام محترفه، بالقرب من حديقة "مونسوري"، وسمعتُ رنّة صوته الأليفة في داخلي، وأحسستُ أنّني حين هربتُ منه آخر مرة رأيته فيها، فذلك رفضاً لفكرة موته، وكنتُ كالقطّة التي تجد أحد صغارها أمامها بلا حراك. تقترب منه وسُرعان ما ترتدّ إلى الوراء.


MISS 3