د. السيد محمد علي الحسيني

من فقه الحياة احتفالات رأس السنة الميلادية

30 كانون الأول 2020

02 : 00

إنّ الإسلام هو خاتم الأديان وأکثرها أصالة ومعاصرة وتماشياً مع روح العصر ومع الأحداث والتطورات والمستجدّات وعلى مختلف الأصعدة، ولذلك فمن الخطأ السعي لجعله يبدو منغلقاً أو منطوياً على نفسه، وعاجزاً عن المجاراة والمعايشة والمسايرة في مختلف الأمور الحياتية بشكل خاص، ولا سيّما في ما يرتبط بخطّه الإعتدالي ـ الوسطي المنفتح والمتسامح مع الآخر، والقابل به كما هو، وإننا نرى ضرورة أن يكون هناك أکثر من سعي مخلص وحثيث من أجل التجديد في الخطاب الديني والمزيد من عصرنته، مع الإنتباه إلى أصالته التي لا بد أن تتمّ المحافظة عليها لأنها بمثابة الروح الدفّاقة له.

مناسبة تحتفل بها الأمم والأديان

إنّ رأس السنة الميلادية التي يحتفل بها المسيحيون کلّ عام ويهتمون بها أشدّ الإهتمام، ويشارکهم في الإحتفال بها أمم وملل غير مسيحية کالبوذيين والهندوسيين واليهود وغيرهم، لا يجب أن نتجاهل حقيقة أنّ أعداداً کبيرة جداً من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يشارکون في هذا الإحتفال، لا سيّما في البلدان الغربية حيث يقيم الملايين منهم فيها، ويجب أن نتحلّى بالشجاعة الكافية للتصدّي لها فقهياً، وتناولها وإدلاء الرأي بشأنها من المنظور الذي حدّدته في بداية مقالنا هذا.

الإحتفال برأس السنة واقع يدعو إلى عدم النأي بالنفس بعيداً من روح العصر والتطور. وإنّ تكرار الموقف المألوف والمعتاد مع البعض کلّ عام بحرمة مشارکة المسلمين في احتفال رأس السنة والإبتعاد عنه، برأينا لا يغير من الواقع الذي نشهده ونلمسه بمشارکة واسعة النطاق للمسلمين فيه، بحيث يمكن القول إنّه لم يعد هناك من يلتفت إلى هذا الموقف "أي حرمة المشارکة في مناسبة احتفال رأس السنة" إلا القلّة القليلة، فيما يشارك فيها الكثرة والأغلبية، ونتساءل: هل نترك الحبل على غاربه ونتصرّف وکأنّ الأمر لا يعنينا کما جرى خلال الأعوام الماضية، أم نتصدّى بشجاعة وجرأة نستمدّها من روح الأصالة والتسامح والتيسير والمعاصرة التي نلمسها في الإسلام نفسه؟

يقول النبي الأکرم"ص": (إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق)، ولذلك فمن المفيد جداً التأمّل والتمهّل في إصدار الفتاوى والمواقف الدينية الحسّاسة التي تتصدّى لحالات فيها الكثير من الخصوصية، لكنّها ولكثرة تكرارها صارت أمراً واقعاً لا يمكن الإستمرار في الفرار منه، لا سيّما وأنّ احتفالات رأس السنة الميلادية باتت تقام بصورة ملفتة للنظر في العديد من البلدان الإسلامية.

يقول الإمام علي بن أبي طالب: (لا تقسروا أولادکم على آدابكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)، هذا الكلام الهام جداً والذي ندرك مدى ومستوى أهميته أکثر عندما نستذکر في أذهاننا الحديث النبوي الشريف: (علي مع القرآن والقرآن مع علي، ولن يفترقا حتّى يردا علي الحوض يوم القيامة)، ولا ريب أنّ رجلاً کالإمام علي وعندما يعلن هكذا موقف يتعلّق بآداب "أي أخلاق" الأولاد، فإن الذي لا شك فيه أنه کان يقول ذلك وفقاً للرؤية والفهم القرآني ولا يمكن الشك بهذا الأمر أبداً، وإن الإمام علي عندما يتحدّث عن اختلاف الأزمنة وما يسبب ذلك من حدوث تغييرات في الرسوم والآداب والأوضاع العامة، فإنه يلفت النظر إلى قضية المعاصرة وضرورة عدم النأي بالنفس بعيداً من روح العصر والتطور.

جواز الإحتفال مشروط بضوابط شرعية

من خلال ما تحدّثنا عنه آنفاً والذي نجده من صلب الإسلام، فإننا وبعد الاتكال على الله تعالى، نرى أنه قد آن الأوان لإعادة النظر بحرمة مشارکة المسلمين في احتفال رأس السنة الميلادية، خصوصاً وأنّها تخصّ أقرب الأديان السماوية إلى الإسلام، لكن ومع إشعال الضوء بجواز المشارکة بذلك، فإننا نريد لفت الأنظار الى أن هذا الجواز مشروط بضوابط لا مناص من الالتزام بها من جانب المسلمين، إذ أنّ المشارکة هي الإطار أما المضمون فيتعلّق بالضوابط، إذ لا يمكن للمسلم وهو يشارك في هذا الإحتفال أن يتجاوز ويتعدّى الحدود الشرعية التي حدّدها الإسلام وبشكل خاص في القرآن الكريم، إذ لا يمكن للمسلم أن يشرب الخمر أو يتمادى في الاتّصال والتصرّف مع النساء بحيث ينتهك حرمة الحدود الشرعية، فلا ضير في المشارکة بإبداء الأمور المباحة وليس الذهاب بعيداً في ذلك، ونٶمن بأن الديانة المسيحية لا تسمح بالزنا وشرب الخمر وما إليه.

المسلم في مناسبة رأس السنة ينبغي عليه أن يتذکّر دائماً بأنه في طريقه لإنهاء عام والدخول في عام جديد، بمعنى أنّ عاماً من عمره مضى وهو يعني بأنه يقترب من أجله الموعود فيما لو سار به القضاء والقدر سالماً لنهاية عمره، ولذلك فإن عليه أن يتذکّر ما الذي عمله خلال العام الذي مضى وأين يقف من ربّه ودينه، وقد جاء في الحديث الشريف: (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله)، کما أننا نجد من المفيد جداً أن نورد هنا قولاً مثالياً للخليفة عمر بن الخطاب حيث قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطّاكم إلى غيركم وسيتخطّى غيركم إليكم، فخذوا حذركم)، ولذلك فإننا وعندما نبدأ عامنا الجديد بالانتباه إلى أنفسنا وأعمالنا، وإلى الحقيقة التي نبّهنا الله سبحانه وتعالى إليها في الآية الكريمة: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زکاها وقد خاب من دساها) وندعو الله تعالى أن يوفّقنا جميعاً في سبيل مرضاته، وأن لا نهدر سنوات أعمارنا بما لا يجلب لنا إلا الضرّر في الدنيا قبل الآخرة، وخير ما نختم به المقال قول الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ( يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا).


MISS 3