إيفلين دويك

السنة التي غيّرت عالم الإنترنت

31 كانون الأول 2020

المصدر: The Atlantic

02 : 00

في العام 2020، دفعت الحاجة إلى احتواء المعلومات المضلِّلة حول فيروس "كوفيد - 19" بمواقع مثل "فيسبوك" و"تويتر" إلى استلام أدوار لم ترغب فيها يوماً، فأصبحت مضطرة للتحقق من الوقائع.

حافظت مواقع التواصل الاجتماعي على تماسكها طوال سنوات، فلم تكن مضطرة للتدخّل لمجرّد أن يكون أحد المنشورات خاطئاً. لكن جاءت أحداث العام 2020 لتغيّر هذا الوضع.

في نهاية شهر أيار الماضي، وضع تويتر إحدى تغريدات الرئيس الأميركي للمرة الأولى في خانة المعلومات المضلّلة المحتملة. وبعدما أصرّ دونالد ترامب، من دون وجه حق، على احتمال تزوير نتائج الانتخابات في تشرين الثاني بسبب التصويت عبر البريد، أضافت هذه المنصة رسالة تطلب فيها من المستخدمين التحقق من الوقائع. في اليوم التالي، ظهر مؤسس "فيسبوك" ومديره التنفيذي مارك زوكربيرغ على قناة "فوكس نيوز" لطمأنة المشاهدين حول تطبيق "سياسة مختلفة" في "فيسبوك"، وأكد في المقابل على اقتناعه بعدم مسؤولية شركات التكنولوجيا عن تقييم مدى صحة ما ينشره الناس على الإنترنت. لكن بحلول شهر تشرين الثاني، بين توقيت إغلاق صناديق الاقتراع والإعلان عن فوز بايدن، امتلأت معظم صفحة ترامب على "فيسبوك" وأكثر من ثلث تغريداته على "تويتر" بملصقات تحذيرية ومنشورات تدعو إلى التحقق من الوقائع. إنه مثال واضح ومفاجئ على التحولات التي طاولت شبكة الإنترنت في العام 2020. منذ سبعة أشهر، اعتُبِر أول تصنيف لتغريدة ترامب حدثاً مفصلياً لكنه أصبح اليوم حدثاً عابراً.

كان عالم الإنترنت بحد ذاته جزءاً من جوانب الحياة التي غيّرها فيروس كورونا المستجد. في ظل هذه الأزمة الصحية غير المسبوقة في عصر مواقع التواصل الاجتماعي، كانت المنصات جريئة على نحو غير مألوف حين قررت حذف أي معلومات مغلوطة حول "كوفيد-19". وبدل أن تتردد كالعادة في حذف المنشورات لمجرّد أنها غير دقيقة، عمدت هذه المرة إلى الإشادة علناً بتحركاتها المؤثرة والجذرية وسرعان ما أعطت هذه الخطوات ثمارها: طوال أسبوع تقريباً في شهر آذار الماضي، أشادت جهات كانت تنتقد هذه الشركات في العادة بِحِسّ المسؤولية الذي أظهرته منصات الإنترنت في هذه الظروف. حتى أن البعض اعتبر أن الحملة المعادية لشركات الإنترنت العملاقة انتهت.

بدا وكأن "فيسبوك" و"تويتر" يريدان إثبات حجم التطور الحاصل منذ العام 2016، فاتخذا خطوات سريعة بشكلٍ غير مألوف للحد من تداول مقالة من صحيفة "نيويورك بوست" حول هانتر بايدن قبل أسابيع قليلة من موعد الانتخابات. من خلال التدخّل للحد من انتشار القصة قبل أن يُقيّمها طرف ثالث مُكلّف بالتحقق من الوقائع، أطلق هؤلاء المراقبون أحكامهم الخاصة على وسيلة إعلامية معروفة.

لقد ولى زمن التفاؤل الساذج الذي طغى على أجواء مواقع التواصل الاجتماعي في أيامها الأولى، فقد كان المدراء التنفيذيون حينها يصرّون دوماً على اعتبار تكثيف الكلام أفضل جواب على الكلام المزعج. لكن بدأ أسياد التكنولوجيا في الزمن المعاصر يعيدون النظر بأفكارهم على ما يبدو. في هذا السياق، قال المدير التنفيذي في موقع "ريديت"، ستيف هافمان، حين كان يشارك في جولة علاقات عامة بهدف تعديل سياسات منصته في شهر حزيران الماضي: "يجب أن أعترف بأنني وجدتُ صعوبة في إقامة التوازن المناسب بين قِيَمي كمواطن أميركي ومبادئ حرية التعبير من جهة، وقِيَمي وقيم الشركة المرتبطة بالآداب البشرية العامة من جهة أخرى".

لا شيء يعبّر عن هذا التحوّل بقدر قرار "فيسبوك" في تشرين الأول الماضي (ثم قرار "تويتر" بعد وقتٍ قصير) ببدء حظر المواقف التي تنكر محرقة اليهود. قبل سنة تحديداً، أعلن زوكربيرغ بكل فخر عن التزامه بالتعديل الأول من الدستور الأميركي من خلال إطلاق حملة واسعة النطاق لدعم حرية التعبير في جامعة "جورج تاون". لكن بعد مرور سنة وتفشي الوباء المستجد، يبدو أن تفكير زوكربيرغ "تطوّر" وتغيّرت معه السياسة المعتمدة في واحدة من أهم منصات التعبير عن الرأي في العالم.

لا يزال التطور مستمراً. أعلن "فيسبوك" في وقتٍ سابق من هذا الشهر عن انضمامه إلى منصات مثل "يوتيوب" و"تيك توك" لحذف أي ادعاءات كاذبة عن لقاحات "كوفيد - 19" بدل الاكتفاء بتصنيفها أو التشكيك بها. قد تبدو هذه الخطوة بديهية، فقد قتل الفيروس أكثر من 315 ألف شخص في الولايات المتحدة وحدها، وقد يكون نشر معلومات كاذبة عن اللقاحات من أسوأ أشكال التعبير عبر شبكة الإنترنت على الإطلاق. لكن يرفض "فيسبوك" حتى الآن حذف أي مواد تعارض اللقاحات خوفاً من مواجهة ردود أفعال سياسية. في الوقت نفسه، أثبت الوباء أن الحيادية مستحيلة في هذه الظروف. لم يتأكد بعد أن حذف المواد مباشرةً هو أفضل نهج لتصحيح المفاهيم المغلوطة، لكن لا تريد شركة "فيسبوك" ومنصات أخرى أن تبدو وكأنها تنشر معلومات قادرة على قتل الناس، خلال الأزمة الراهنة على الأقل.

بدأت هذه المنصات تعتاد على تأثيرها القوي، وهي تدرك أنها تملك خيارات تتجاوز حدود حذف المنشورات أو عدم المساس بها. بالإضافة إلى استعمال الملصقات التحذيرية، اتخذ "فيسبوك" تدابير أخرى لكبح المعلومات المضللة مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، فعدّل مثلاً نظام الحلول الحسابية فيه لتقوية المصادر الجديرة بالثقة في منشورات الأخبار وعطّل التوصيات التي تدعو للانضمام إلى جماعات تتمحور حول المسائل السياسية أو الاجتماعية. بدأ "فيسبوك" ينقلب على جزء من هذه الخطوات الآن، لكنه لن يجعل الناس ينسون وجود هذا الخيار مستقبلاً. يتابع "تويتر" من جهته تطبيق عدد من التعديلات المرتبطة بالانتخابات للتشجيع على تقاسم المعلومات بطريقة دقيقة، حتى أنه يحاول توسيع هذه التدابير إذا أمكن. وقبل تفشي الوباء، بدأ "يوتيوب" يعدّل نظام التوصيات فيه لتقليص نطاق انتشار المواد المسيئة وراح يطرح تنبيهات منبثقة لتشجيع المستخدمين على التفكير ملياً قبل نشر أي تعليقات هجومية.

لطالما كانت المنصات الأميركية أكثر ميلاً إلى إهمال النتائج الثانوية لوجودها في الأسواق العالمية. لكن بدأت تلك النزعة تتغير أيضاً في العام 2020. حذف "تويتر" تغريدات الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو والرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لأنها تنتهك السياسات الخاصة بوباء "كوفيد - 19". وطرح "فيسبوك" مجموعة من السياسات الخاصة بالانتخابات في ميانمار، بما في ذلك تصنيف الادعاءات المثيرة للجدل حول تزوير الانتخابات. وفي بداية كانون الأول، وضع "تويتر" ملصقاً تحذيرياً للمرة الأولى على تغريدة سياسي هندي بارز وصفه موقع "بازفيد" بالشخص "المعروف بنشر معلومات مضلّلة". من الواضح أن المعايير ضعيفة لدرجة أن تُعتبر هذه الخطوات شكلاً من التقدم.





لا تستحق هذه المنصات الإشادة لأنها لاحظت في مرحلة متأخرة الأضرار التي شاركت في إحداثها وأعطتها تصنيفات باهتة. لا تزال شركات مواقع التواصل الاجتماعي تُخصص موارد قليلة للأسواق الواقعة خارج الولايات المتحدة أو اللغات المختلفة عن الإنكليزية. قد يشعر بعض المعلّقين بالتحسّن بفضل الملصقات التحذيرية التي تشير إلى معلومات كاذبة، لكن لا أحد يعرف بعد مدى قدرة هذه التصنيفات على كبح حملات التضليل. تكشف التقارير الإخبارية أن مصادر داخلية في "فيسبوك" كانت تدرك ضرورة أن تبذل جهوداً إضافية لوضع حدّ لتلك الظاهرة، لكن عارض مسؤولون في أعلى المراتب هذه الأفكار. كذلك، بالكاد تحرّك "يوتيوب" من جهته لكبح فيض المعلومات المضلّلة حول نتائج الانتخابات على منصته.

لا تزال هذه الأنظمة المعقدة غامضة حتى الآن. حين تعلن منصات الإنترنت عن سياسات جديدة، يكون تقييم قدرتها على تطبيق تلك السياسات بشكلٍ دائم صعباً في جميع الحالات. لذا تضع الشركات علامات على مقارباتها. لكن يوحي المشهد الخارجي في معظم الأوقات بأنها تفشل في مساعيها. رفعت المنصات عدد العاملين لمراقبة محتوى المواقع في السنوات القليلة الماضية، لكن زادت أعباء هؤلاء المتعاقدين المرهقين منذ المرحلة التي سبقت تفشي فيروس كورونا واضطرار عدد كبير منهم للعودة إلى المنزل حيث بات الموظفون عاجزين عن العمل بكامل طاقتهم. تستخدم المنصات أيضاً الذكاء الاصطناعي لرصد المواد التي تخرق قوانينها وتتفاخر تقارير الشفافية التي تنشرها بارتفاع "معدل الرصد الاستباقي"، لكن تبقى هذه الأدوات هشة أو مخطئة في معظم الحالات.

ربما كشف العام 2020 أخيراً ضرورة أن توسّع منصات التواصل الاجتماعي نطاق مراقبتها للمنشورات، لكنه سلّط الضوء أيضاً على حدود قدرات المراقبة فيها. فيما عمدت منصات معينة إلى قمع المواد المسيئة، اعتبرت مواقع أخرى هذه الظروف فرصة لتسويق نفسها كأداة تضمن "حرية التعبير" للمستخدمين المتضررين. بدأت المواد التي حذفها عدد من المنصات تتدفق وتنتشر على منصات أخرى طبعاً، لذا لن يكون تصنيف المحتويات أو حذفها من شبكة الإنترنت تدابير كافية للتعامل مع الظروف الاجتماعية أو السياسية التي تبرّر نشر هذا النوع من المواد أصلاً. وحتى أقوى المنصات لن تتمكن يوماً من التعويض بالكامل عن إخفاقات المؤسسات الحاكمة الأخرى أو منع قادة العالم الحرّ من بناء واقع بديل حين يصبح النظام الإعلامي كله مستعداً لتنفيذ هذه الخطوة. في هذا السياق، كتبت الباحثة رينيه ديريستا في صحيفة "ذا أتلانتيك" في الشهر الماضي أن "تخفيض كمية المعلومات المضللة لا يلغي الطلب عليها".

في مطلق الأحوال، تثبت أحداث هذه السنة أن منصات الإنترنت لا تحمل طابعاً فطرياً أو حتمياً أو ثابتاً بالشكل الذي تتخذه اليوم. تبقى احتمالات تطوّرها والأدوار التي ستلعبها في المجتمع مستقبلاً مجرّد توقعات وليست مبنية على أي ضوابط تكنولوجية ثابتة. لكن يبدو أن الشركات باتت أكثر استعداداً من أي وقت مضى لاختبار هذه الاحتمالات.


MISS 3