عيسى مخلوف

اللقاح وحده لا يكفي!

9 كانون الثاني 2021

02 : 00

في موازاة البدء بأكبر عمليّة تلقيح في العالم، تزداد الدعوة إلى الحَجر وفرض القيود مع ازدياد الإصابات بالوباء، ومع ظهور سلالة جديدة منه انتشرت في بريطانيا أوّلاً. وتحدّثت منظّمة الصحّة العالميّة عن "مؤشّرات أوّليّة تفيد أنّ عدوى هذه السلالة قد تكون أكبر". تلتها في الأيّام الماضية سلالة أخرى اكتُشفَت في جنوب أفريقيا. وهذا ما سبق أن حذّر منه العلماء أيضاً.

لا نعرف مدى قيمة الحياة فعلاً إلاّ عندما نشعر بأنّنا مهدّدون بفقدانها. وعالمنا اليوم - لا هذه الدولة أو تلك، بل العالم أجمع - مهدّد أكثر من أيّ وقت مضى ويحتاج إلى حوار عميق بين الشّعوب، حوار متكافئ، أين نحن منه؟ لقد كان من نتيجة ما تسببّ فيه الإنسان من ثاني أكسيد الكربون، وما استخرجه من الموارد الطّبيعيّة خلال القرنين الماضيين، خصوصاً منذ القرن التّاسع عشر، أن بدأ هذا الكوكب ينتقل إلى عصر جيولوجيّ جديد، وذلك بسبب التّصنيع الجامح الّذي ترك آثاراً بليغة على الأرض والغلاف الجوّي والقطبين المتجمّدين. هنا، أيضاً، تكمن منابع الأزمة البيئيّة الرّاهنة وأخطارها. نحن، إذاً، في حالة طوارئ قصوى يتوقّف على معالجتها مستقبل الحياة على الأرض.

ذكرت إحدى الدّراسات الّتي صدرت أخيراً أنّ البشريّة دمّرت، خلال نصف قرن، ما كان قائماً على كوكب الأرض منذ ملايين السّنين. وهي ليست الدّراسة الوحيدة في هذا الشّأن. دراسات علميّة كثيرة حذّرت، في السّنوات الماضية، من تدهور تنوُّع الأنظمة البيئيّة. تدمير الطّبيعة بهذه الطريقة غير المسبوقة هو تدمير مقوّمات الحياة. لقد نُظِّمَت لقاءات علميّة عدّة للتداول في هذا الموضوع والبحث عن الحلول الملائمة لوقف الانهيار. ويُجمع العلماء على أنّ تغيير الأنساق السّائدة ضرورة لإنقاذ الطّبيعة والحياة على الأرض. والتّغيير المنشود يأخذ في الاعتبار معالجة النّفايات، لا سيّما النّفايات الصّناعيّة المُهمَلة، والحدّ من المبيدات الحشريّة، وكلّ ما من شأنه أن يلوّث التّربة والأنهار والمحيطات والبحار.

استباحة الأرض شَجَّعَ عليها النّصُّ التّوراتيّ نفسه. في الإصحاح الأوّل من "سفر التّكوين" نقرأ الآتي: "خلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذَكَراً وأنثى خَلَقَهُم. وباركهم الله وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرضَ وأَخضِعوها وتسلّطوا على سمك البحر وعلى طير السّماء وعلى كلّ حيوان يَدِبُّ على الأرض". إنّها دعوة أولى، واضحة ومباشرة، إلى الانقضاض على الأرض والبيئة واستباحتهما بشكل قاهر إلى ما لا نهاية. غير أنّ الاستغلال المفرط للكوكب وصل الآن إلى الحدود القصوى. الصّناعيّون الكبار لا تعنيهم صحّة الإنسان ولا صحّة الأرض، وسياسات الدّول العظمى لا تنتصر لأنماط حياة أكثر استدامة. مع الثّورة العلميّة والتّقدّم التّقنيّ والتّكنولوجيّ، أخذ هذا الاستغلال أبعاداً غير مسبوقة، كما أخذ العنف أشكالاً لم يعرفها الإنسان من قبل. وهذا ما بيّنته في صورة جليّة الحربان العالميّتان اللّتان أسفرتا عن عشرات ملايين القتلى. إنّ الّذي يقتل البشر في هذا الشّكل يقتل الأرض أيضاً بالطريقة نفسها.

هذا الكلام لا يعني، بأيّ حال من الأحوال، التحذير من التقدّم العلمي، بل من كيفيّات استعماله. ثمّة وجهان لهذا التّقدّم: وجه إيجابيّ مهمّ ووجه سلبيّ مدمِّر. الاكتشافات الهائلة في مجالات عدّة، منها الطّبّ والفلك والمعلوماتيّة ووسائل الاتّصال، هي نتاج التّقدّم العلميّ، وكذلك القنبلة النّوويّة. مع القنبلة النّوويّة الأولى الّتي ألقيت على هيروشيما في السّادس من شهر آب/ أغسطس 1945، بدأت مرحلة جديدة من تاريخ البشر، ومعها بدأ خوف جديد لا سابق له.

إذا كانت طاقات الحيوان مبرمجة ومحدودة، وهناك حدود للعنف حتّى عند الحيوانات المفترسة، فإنّ طاقات البشر لا حدود لها، إيجاباً وسلباً، في البناء والهدم على السواء. في الشّقّ السّلبيّ، الإنسان هو الكائن الوحيد في الطّبيعة القادر على إفناء جنسه وجميع الأجناس الحيّة الأخرى، ولا مثيل لطاقته السّلبيّة وإقباله على العنف والتّفنُّن في القتل والتّعذيب. لذلك، فإنّ أهمّيّة التّقدّم العلميّ تتحدّد في طرائق استعماله والتّعامل معه، إذ ما معنى هذا التّقدّم إذا لم يواكبه تقدّم على المستوى الإنسانيّ يضع العلم في مساره الصحيح ولا يجعله يتحوّل وسيلة إضافيّة لاغتراب الإنسان عن نفسه وعن العالم حوله.

مع مطلع هذا العام الجديد، من حقّنا أن نحلم قليلاً ونقول: لعلّ الانتصار على وباء كورونا سيكون مدخلاً للخلاص من أوبئة أخرى أشدّ فتكاً، وفي مقدّمها التسلُّط والجشَع والاستغلال.


MISS 3