خالد أبو شقرا

مصرف لبنان يغطّي خسائر المصارف بهندسات جديدة - قديمة ويتغاضى عن إعادة الهيكلة

الدولارات بين البنوك و"المركزي"... "دايماً هنّي ذاتن"

14 كانون الثاني 2021

02 : 01

يستمر القطاع المصرفي والمودعون والمتعاملون بتحمّل الخسائر الفعلية (رمزي الحاج)
متناسياً الضرر الذي أحدثه في الاقتصاد وفي بنية القطاع المصرفي يستمر مصرف لبنان في تنفيذ هندساته المالية التقليدية أحادية الجانب. هندسات أقل ما يقال فيها إنها "تجميلية" تحل مشاكل المصارف ظاهرياً، عبر إضافة أطنان من مساحيق التجميل الدولارية على ندوبها العميقة، من دون أن تخفيها.




يواصل "المركزي" منذ نهاية العام الماضي عرض بيع الدولار للمصارف التجارية على السعر المعتمد من قبله، أي 1515 ليرة، مع حفظ حقه الاختياري باعادة شراء هذه المبالغ من المصارف، ولكن بسعر المنصة أي 3900 ليرة لبنانية حالياً، أو حتى أكثر في المستقبل.

تغطية الخسائر بالدولار الوهمي

من البديهي الملاحظة ان هذه السياسة تتيح للمصارف تحقيق ارباح طائلة تصل إلى 2385 ليرة مقابل كل دولار تشتريه من مصرف لبنان في حال بقاء سعر المنصة على 3900 ليرة. إلا ان هذا ليس كل شيء، فامتلاك المصارف للدولار، ولو نظرياً، أي من دون ان يكون قيمة مادية موجودة في خزائنها، يسمح لها بتغطية خسائرها على الاوراق وفي الميزانيات، ويظهرها بمظهر المتعافي، فيما هي منهارة. وهذا ما يتناقض مع كل تصاريح وتعاميم مصرف لبنان السابقة التي تفرض على المصارف إعادة الرسملة وتغطية الخسائر، وإلا ستعاقب ويكون مصيرها الخروج من السوق.

يقول اينشتاين: "من الجنون فعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات وإنتظار نتائج مختلفة"، لكن القطبة المخفية هي ان مصرف لبنان لا يسعى من خلال هذه السياسة إلى إحداث أي فرق جدي في اعادة هيكلة القطاع المصرفي، بل إلى تكرار الخطأ القاتل قصداً. "فهو سارع كعادته إلى التدخل من أجل مساعدة المصارف ومنحها المزيد من الوقت وتأخير مواجهة الحقيقة"، يقول الاقتصادي محمد زبيب. "وبالتالي بدلاً من تحميل اصحاب المصارف ومديريها التنفيذيين المسؤولية عن أوضاع مصارفهم، ابتكر لهم رياض سلامة كعادته "هندسة مالية" جديدة-قديمة، أصبح هناك شبه توافق على انها كانت سبباً من أسباب الأزمة". وبرأيه فان "هذا الدعم للمصارف لا يصب في المصلحة العامة بل في مصلحة المصارف واصحابها وفي مصلحة المركزي الخاصة".

"السحر المحاسبي الأسود"

في مقابل الدولارات التي يبيعها مصرف لبنان للمصارف، يقوم "المركزي" بحسم شهادات ايداع صادرة عنه او توظيفات لأجل بقيمة مساوية بالليرة اللبنانية وبسعر القسيمة الاصلي زائد 1 في المئة، على ان يكون متوسط استحقاقات الادوات المالية المحسومة نحو 15 سنة. وفي الوقت نفسه، يلغي مصرف لبنان "هندسة مالية" (سابقة مع المصرف المعني) بالقيمة نفسها بالليرة اللبنانية من دون اي اعتبار لمدّة الاستحقاق. وبالتالي يشطب بهذه الطريقة بعض الالتزامات المترتبة عليه للمصارف في الميزانية. وعليه يكون مصرف لبنان "يحضّر" المزيد من اعمال "السحر المحاسبي الاسود"، برأي زبيب. "ولا يقوم بأي هندسات مالية جدية أو جيدة". وبغض النظرعن ان الاموال ستنتقل دفترياً بينه وبين المصارف فان "الهدف النهائي سيبقى اظهار الميزانيات في المصارف بصورة غير مطابقة للواقع. وإبعاد كأس تحمل المسؤولية المر عن أصحابها والمساهمين فيها الذين يفترض بهم أول من يتلقى ويتحمل الخسائر من أموالهم الخاصة وحساباتهم"، يقول زبيب.

إعادة الهيكلة... كذبة

هذه السياسة المتبعة حديثاً والتي يمكن عطفها على تعاميم سابقة لمصرف لبنان، تؤكد عدم الجدية في السير في موضوع اعادة هيكلة القطاع المصرفي كما يدعي "المركزي". ففي وقت سابق من منتصف العام 2020 أجاز "المركزي" للمصارف إعادة تقييم ونفخ اصولها، وإمكانية تكوينها مؤونات على محافظ التوظيفات لديه بالليرة اللبنانية وبالعملات الاجنبية (بما فيها شهادات الايداع) وعلى التوظيفات، في سندات الخزينة مع الدولة تدريجياً لمدة 5 سنوات. وايضاً سمح لها بعدم تخفيض تصنيف ديون العملاء المتأثرين سلباً بانتشار فيروس كورونا في حال حصول تأخر في تسديد ديونهم. وغيرها الكثير من الاجراءات المحاسبية. لكن المشكلة، بحسب زبيب، ان "المصارف، وتحديداً المراسلة منها، مضطرة بسبب علاقاتها مع الخارج إلى الالتزام ببعض المعايير حتى لو كان المركزي يتغاضى عن تطبيقها، ومنها تكوين المؤونات على الخسائر المتوقعة في توظيفاتها، والتي منها التوظيفات بالعملة الاجنبية بالادوات السيادية. المصارف بمعظمها كانت تكوّن مؤونات مقابل المخاطر بالسندات بالدولار، بالليرة اللبنانية. مع العلم ان هذا الاجراء يعتبر مخالفاً للمعايير المحاسبية، لأن المؤونات يجب ان تكون بنفس عملة الدين، حيث ان مؤونات بقيمة 1500 مليار ليرة على سبيل المثال أصبحت تساوي اليوم 200 الف دولار بعد ان كانت محتسبة بـ مليون دولار في السابق". وبالتالي فان المصارف مجبرة، برأي زبيب، "على تكوين مؤونات بالدولار من خلال تحمل اصحابها والمساهمين فيها المسؤولية الأولى سواء ببيع ممتلكات أو تسييل أصول أو شراء الدولار او خلافه. وبدلاً من ذلك انبرى سلامة (حاكم مصرف لبنان رياض سلامة) لحل هذه المعضلة دفترياً من خلال بيع المصارف الدولار. ولأن العملية نظامية ترك حقه باعادة الشراء مفتوحاً ولكن بسعر المنصة".

من الواضح ان استفادة المصارف من سياسة مصرف لبنان كبيرة، لكن ماذا يستفيد هو من اعادة شراء الدولار بسعر أعلى؟

"هذه العملية التي تفترض في الوقت نفسه شطب هندسات مالية سابقة وحسماً لشهادات الايداع من أجل شراء الدولار.. تسمح لمصرف لبنان بتخفيض جزء بسيط من الخسائر الموجودة عنده"، يقول زبيب. وعليه تكون هذه العملية حلّاً "رابح رابح" بينه وبين المصارف، فيما يستمر القطاع المصرفي بشكل عام والمودعون والمتعاملون بتحمل الخسائر الفعلية.

لغاية الآن لا يوجد أي مؤشر او عمل جدي يدل على ان نهاية شباط 2021 ستحمل أي تغيير في القطاع المصرفي كما هو متوقع. فالمهل المحددة لاعادة رسملة القطاع المصرفي بنسبة 20 في المئة، وزيادة امواله الخاصة في المصارف المراسلة بنسبة 3 في المئة ستضرب بعرض الحائط من جديد. حيث ليس هناك من اجراءات ولا مفاوضات ولا مساومات ولا حكومة تتشكل ولا برنامج من أي نوع كان مطروحاً، توحي بان الاصلاح في القطاع المصرفي قريب. بل على العكس فان المصارف ستستمر كـ "زومبي" بنك بموازنات مغطاة دفترياً من مصرف لبنان على عين العيون الخارجية.