مايكل شومان

نحو تفكيك المعجزة الاقتصادية الصينية؟

16 كانون الثاني 2021

المصدر: The Atlantic

02 : 01

لم تكن "المعجزة" الاقتصادية الصينية خارقة للطبيعة بمعنى الكلمة، بل إن النمو الصيني الهائل في آخر أربعين سنة يعكس انتصار المبادئ الاقتصادية الأساسية: حين فتحت الدولة المجال أمام تطوّر السوق الحر، ازدهرت الشركات الخاصة والعمليات التجارية وتسـارع النمو وارتفعت المداخيل بدرجة قياسية.

لكن يبدو أن شي جين بينغ يغفل عن هذا الدرس البسيط. يرفض الرئيس الصيني اليوم سياسة مثبتة منذ عقود ويفضّل ترسيخ سلطة الحزب الشيوعي في مجال الاقتصاد وإعادة توجيه قطاع الأعمال الصيني نحو الداخل. في ظل تصاعد مظاهر العدائية في واشنطن، يبدو أن شي جين بينغ يتجه إلى تسريع خطته لكن قد يترافق هذا التوجه مع عواقب خطيرة على التقدم الاقتصادي في الصين وعلاقات البلد مع العالم.

من الواضح أن شي جين بينغ لن يتخلى عن التجارة الحرة بالكامل. فقد صرّح خلال قمة مجموعة العشرين في تشرين الثاني الماضي بأن الأجندة الاقتصادية الجديدة في الصين لا تعكس "سياسة منغلقة بأي شكل بل إنها ستخلق فرصاً إضافية كي يستفيد العالم من النمو الصيني عالي الجودة". لكن يظن الحزب الحاكم في المقابل أن كوادره يجب أن توسّع سيطرتها على القرارات الإدارية في الشركات الخاصة لضمان التزامها الجدّي بالخط الذي تُحدده الدولة.

ما كان يُفترض أن يصل الوضع إلى هذا الحد. أدرك دينغ شياو بينغ، أحد أسلاف شي جين بينغ، وهو من أطلق الإصلاحات الصينية الداعمة للسوق في أواخر السبعينات، أن البلد فقير لأن الدولة الشيوعية تخنقه وتعزله عن العالم. ثم عمد دينغ والقادة اللاحقون تدريجاً إلى تخفيف الضوابط المفروضة على الاستثمارات الخاصة والتجارة والشركات الأجنبية. وبعد التخلص من قيود المخططين الحكوميين المتغطرسين، حققت الطاقات الصينية في مجال تنظيم المشاريع فورة من النمو والثروات بدعمٍ من الرساميل المستوردة والتكنولوجيا.

حين استلم شي جين بينغ الحُكم في العام 2012، بدا وكأنه يسير على طريق الإصلاح في المرحلة الأولى. في أواخر العام 2013، طرح الحزب الشيوعي خطة اقتصادية جعلت عدداً كبيراً من خبراء الاقتصاد ورجال الأعمال يقتنع بأن التغيير أصبح وشيكاً. حصل تغيير واضح فعلاً لكنه لم يكن بالشكل المتوقّع.

طبّق شي جين بينغ إصلاحات متقطعة في السوق، فأصبح القطاع المالي أكثر انفتاحاً على المستثمرين والشركات الخارجية مثلاً، لكنه فضّل بكل وضوح أن يبقى الوضع تحت سيطرة الدولة. أغرقت إدارته مجموعة واسعة من القطاعات التكنولوجية المتطورة بالمساعدات المالية، بما في ذلك مجال الرقائق الدقيقة والسيارات الكهربائية. يذكر نيكولاس لاردي، مسؤول مرموق في "معهد بيترسون للاقتصاد الدولي"، أن الشركات المملوكة للدولة تحصد حصة أكبر من الموارد الحيوية مثل القروض المصرفية، بينما توقّف نمو حصة الناتج الوطني الذي تُحققه الشركات الخاصة مقارنةً بالأرقام السابقة. هكذا انتهى زمن ازدهار القطاع الخاص برأيه.

ربما يظن شي جين بينغ أن الصناعات التي تحظى بدعم الدولة أهم من أن تتعرض لتقلبات السوق الحر غير المتوقعة. أو ربما يظن أن توسيع دور الدولة قد يرسّخ سطوته على الحزب والحكومة. يقول لاردي إن الرئيس الصيني يسعى إلى توسيع سيطرته ويفترض أن الاتكال على قطاع حكومي كبير عامل أساسي لتحقيق هذا الهدف.

أو ربما تحرك شي جين بينغ بدافع الخوف وانعدام الثقة. منذ عصر دينغ، لطالما ارتكز صانعو السياسة في بكين على شعار "الإصلاح والانفتاح" الذي يشدد على أهمية التكامل مع الاقتصاد العالمي. لكن يريد شي جين بينغ أن يحدّ من هذا التكامل أو يتواصل مع العالم بشروط مختلفة على الأقل. ستتابع الصين طبعاً بيع جميع أنواع السلع وتتلقى أموال الناس بكل سرور. لكن يرغب الرئيس الصيني في تخفيف اتكال الصين على الدول الأخرى، لا سيما الخصوم المحتملين مثل الولايات المتحدة. من وجهة نظر بكين، كشفت الضوابط التي فرضتها إدارة ترامب على مبيعات التكنولوجيا لصالح شركة الاتصالات العملاقة "هواوي" وجهات صينية أخرى مخاطر الاتكال على أطراف خارجية غير جديرة بالثقة، وينوي شي جين بينغ أن يمنع السياسيين في واشنطن أو أي مكان آخر من إعاقة التقدم الصيني.

يعطي شي جين بينغ الأولوية اليوم للشؤون الداخلية. يقول جيمس ماكريغور، رئيس الفرع الصيني من الشركة الاستشارية "أبكو وورلد وايد": "هو يشعر بأنه محاصر. بدأ المسؤولون الصينيون يتخلصون من جميع نقاط ضعفهم تجاه العالم الخارجي أو يعملون على تقليصها قدر الإمكان".

تقسم استراتيجية شي جين بينغ الجديدة الرؤية الاقتصادية الصينية تجاه العالم إلى قسمَين: التركيز محلياً على الشركات التي تنشط داخل الصين وتنتج السلع للمستهلكين الصينيين، والتركيز دولياً على تبادلات البلد مع الخارج. لم تتّضح بالكامل بعد طريقة تطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع، لكنه يشير إلى تحوّل في علاقات الصين الاقتصادية مع بقية دول العالم. سبق ودمجت بكين بين الإصلاحات الداخلية والعولمة لتحويل العاملَين إلى محرك قوي للنمو، لكنها تُلمِح الآن إلى زيادة تركيزها على تقوية الاقتصاد المحلي لتعزيز مكانة الصين في وجه البيئة العالمية التي تزداد اضطراباً وعدائية.

قد لا تكون هذه المقاربة سيئة على مستويات معينة: طوال سنوات، لام خبراء الاقتصاد بكين على اعتبار أن نموها الاقتصادي كان ليتحسن لو أنها زادت اتكالها على الاستهلاك الصيني بدل الاستثمارات أو الصادرات. لكن قد يعني هذا التغيير أيضاً أن الصين ستتعامل مع التجارة والاستثمارات الخارجية بطرقٍ تضمن تنفيذ هذه الأجندة. بعبارة أخرى ستبقى الصين منفتحة على المشاريع، شرط أن تسهم تلك المشاريع في حماية مصالحها.

تتماشى هذه المقاربة مع أهداف أخرى للرئيس الصيني. يجب أن تنتج الصين برأيه بدائل محلية عن منتجات أساسية تشتريها راهناً من الخارج، لا سيما الرقائق الدقيقة وتقنيات محورية أخرى. في خطاب ألقاه شي جين بينغ في نيسان الماضي، أعلن أن الصين تحتاج إلى سلاسل إمدادات "مستقلة وآمنة وجديرة بالثقة وخاضعة للمراقبة" لحماية الأمن القومي، بالإضافة إلى "تأمين مصدر بديل واحد على الأقل عن المنتجات الأساسية وقنوات الإمدادات لإنشاء نظام صناعي احتياطي ضروري". لطالما كان تطوير التكنولوجيا محلياً جزءاً من طموحات الصين، لكن يظن المراقبون أن شي جين بينغ سرّع هذه الخطة لأقصى درجة.

ثمة مجال لتوسيع التعديلات الاقتصادية التي يريدها الرئيس الصيني. تُحضّر حكومته نظام "الائتمان الاجتماعي للشركات"، وهو يشبه نظاماً مُصمّماً للمواطنين الصينيين. نظرياً، يُفترض أن يكبح هذا النظام التلوث والحِيَل الضريبية ومظاهر أخرى من الفساد في الشركات. لكنه قد يكون عملياً أداة حكومية أخرى للتدخل في شؤون المدراء في القطاع الخاص. يقول يورغ ووتكي، رئيس غرفة تجارة الاتحاد الأوروبي في الصين: "يشعر القادة في الحكومة دوماً بأنهم لا يسيطرون على هؤلاء المدراء بما يكفي". تُضاف هذه العوامل كلها إلى تجربة كبرى وغير مسبوقة منذ عهد ماو تسي تونغ في مجال التنمية التي تُوجّهها الدولة.

عارض خبراء الاقتصاد التقليديون برنامج شي جين بينغ، فهو يتخذ جميع الخطوات الشائكة لتعزيز المداخيل والابتكار. لكن لا يمكن اعتبار خططه محكومة بالفشل فوراً. تشمل الصين سوقاً عملاقاً فيه 1.4 مليار نسمة ويستطيع البلد أن يطوّر شركات محلية ضخمة من دون أن يتصادم مع العالم الخارجي. إذا نجح هذا البرنامج، قد يضطر خبراء الاقتصاد لإعادة صياغة مراجعهم.

لكن تبقى هذه المقاربة محفوفة بالمخاطر. من خلال تفضيل القطاع العام، يُخصص شي جين بينغ أموالاً قيّمة ومهارات كبرى لصالح شركات حكومية متضخمة وغير كفوءة بدل توجيهها نحو الشركات الخاصة البارعة والإبداعية. تتّضح تداعيات هذه الخطوة عبر انهيار مستوى الإنتاجية (إنه وضع كارثي بالنسبة إلى مجتمع مُسِنّ لا يزال يحاول مواكبة الدول الغنية) وتصاعد الديون التي باتت تساوي اليوم ثلاثة أضعاف حجم الإنتاج الوطني.

في تقرير صادر في تشرين الأول الماضي، اعتبر خبير الاقتصاد جوليان إيفانز بريتشارد من الشركة البحثية "كابيتال إيكونومكس" أن النزعة نحو الاكتفاء الذاتي ستُكبّد الاقتصاد الصيني خسائر حتمية لأنها تُحوّل استعمالات الموارد نحو أهداف أقل إنتاجية وتُجبر الشركات على اختيار الموردين لأسباب سياسية، لا اقتصادية. كتب بريتشارد في تقريره: "قد يكون السعي إلى الاكتفاء الذاتي منطقياً كشكلٍ من الضمانات في وجه الحملات العدائية التي تطلقها الولايات المتحدة وحلفاؤها. لكن سيتحسن الاقتصاد الصيني إذا انتفت الحاجة إلى هذا النوع من الضمانات منذ البداية".

يبدو أن شي جين بينغ يراهن على تلك الضمانات وسيترافق هذا التوجه حتماً مع تداعيات هائلة خلال عهد جو بايدن المقبل. من الواضح أن الرئيس الصيني يستعد لخوض صراع مطوّل بين أكبر اقتصادَين في العالم عبر محاولة حماية الصين من التدابير التي يمكن أن يفرضها ضده بايدن. لكنه يغيّر بهذه الطريقة مكانة الاقتصاد الصيني في العالم.

دعمت الولايات المتحدة الإصلاحات الاقتصادية الصينية على أمل أن يستفيد الجميع من ازدهار بكين وأمنها حين يصبح البلد أكثر ثراءً. لكن إذا نجح شي جين بينغ في استبدال معظم المنتجات التي تشتريها الصين من العالم، سيُضعِف بذلك المنطق الاقتصادي الذي يبرر متابعة التواصل مع نظام استبدادي ووحشي. ربما يظن الرئيس الصيني أنه يحمي الصين من العزلة، لكنه قد يُمعِن في عزلها بهذه الطريقة.


MISS 3