طوال العقود الماضية، تمّ التأکيد على مسألة الحوار بين الأديان وضرورة وأهمية ذلك في المحافظة على السلام والأمن والاستقرار في العالم وتحقيق رسالة السماء، لكن من المهمّ أن نشير هنا الى أنّه بعد انتشار خبر إعادة تأهيل كنيس "ماغن أبراهام" وافتتاحه في بيروت، وعودة النشاط الديني إلى داخله، وانتشرت صور تظهر وجود زوّار يجولون فيه، استغربَ اللبنانيون لتوهّمهم وخلطهم ما بين ما هو سياسي وما هو ديني. فاليهودية هي شريعة موسوية سماوية وبعدها الشريعة العيسوية ثم المحمّدية، فالشرائع الثلاث السماوية تمثّل رسالة الله الواحد إلى الإنسان ومن أجله ولعمارة الأرض ولكن بشرط إبعاد الأهداف السياسية عنها، ومن هنا جاءت مناسبة إعادة تأهيل وافتتاح كنيس "ماغن أبراهام" في بيروت والتي تعجّب منها المجتمع اللبناني، لتعطي إيلاء وأهمية جانبية ودفعاً لإقامة حوار إسلامي ـ يهودي بعدما تم وأجري حوار إسلامي ـ مسيحي، فبالرغم من أنّ الحوارين هامّان وحيويان بالنسبة للأمة الإسلامية، لكن من الخطأ تفضيل أحدهما على الآخر، فکلاهما دينان سماويان، ولكلّ منهما أهمّيته واعتباراته الخاصة.
الجوانب المشتركة بين اليهودية والإسلام أرضية خصبة لتفعيل الحوار بينها، عند التمحيص والتدقيق في الديانتين الإسلامية واليهودية، نجد أنّ کليهما يؤمنان بنفس الربّ وينسبان له صفات مشترکة مثلما أنّ الأفعال المنسوبة إليه هي ذاتها دون تغيير، کخالق للسموات والأرض، کما نجد أنّ الديانتين تشترکان في تحديد مشاعر وأحاسيس الواجب والالتزام والمسؤولية الدينية تجاه الربّ، لذلك فإنّ هناك سنناً وقوانين محدّدة تتحكّم في العلاقة ما بين البشر وخالقهم في الديانتين، وما يتفرّع عن ذلك على ما يتعلق بدور العدل في الحياة الاجتماعية وفي حياة الفرد ذاته، بما يضع للقضاء أهمية ومكانة خاصة، ناهيك أنّ الديانتين تشترکان في مفاهيم التحريم والحدود الشرعية، ويؤمن کلاهما بنبوة إبراهيم وموسى.
ومن هنا، فإننا نجد أنّ هذه الأرضية جامعة ومناسبة، تسمح بالتقارب أکثر ممّا تتيح التباعد والتنافر بين الديانتين.
تعايش تاريخي
إنّ إعادة تأهيل وافتتاح كنيس "ماغن أبراهام" في بيروت هي خطوة تعيدنا للتاريخ ومنعطفاته والأحداث والمتغيّرات التي حفلت به، مع کلّ منغصاتها وسلبياتها، فقد كانت هنالك جوانب مشرقة وناصعة، تؤکّد انتصار إرادة السلام والحوار والتفاهم والتعايش السلمي بين الديانتين، بل من المفيد هنا الإشارة إلى أنّ الكثير من رجال الدين اليهود قد ساهموا بنشر اللغة العربية وعلومها وآدابها خلال الفترة المحصورة بين 900 و 1200 ميلادية، کما أنّ التعايش السلمي الذي کان سائداً بين المسلمين واليهود في عهد الدولة العثمانية بصورة خاصة، وقبلها العباسية والأموية بصورة عامة، يؤکّد بأنّه بالإمكان تجاوز الكثير من أسباب وعوامل الفرقة والاختلاف، والبحث في القواسم المشترکة ونقاط الإلتقاء بين الجانبين.تباين وفلسفة في عظمة الخالق
لا يمكن التعامل بصورة انتقائية مع التاريخ مثلما لا يمكن أيضاً تجاهل النقاط والأسس والرکائز التي تجمع بين اتجاهين مختلفين، ولا يمكن أن نعتبر الاختلاف بصورة عامة على أنه حالة سلبية، بل إنّ تنوّع وتباين الأطياف والمكوّنات الدينية والعرقية هي بحدّ ذاتها تأکيد على فلسفة الأديان الأساسية في عظمة وقدرة الله المطلقة في خلق کلّ هذا التنوّع والاختلاف، والسماح لهم بالعيش على مساحات ومناطق محدّدة بما يدعوهم للتأمل والتمعّن في فلسفة الوجود والكينونة، وإنّ ما جرى خلال القرن العشرين من أحداث دموية ومأسوية ليس من المستحسن سحبه على العلاقة بين الديانتين وجعله معياراً للتعامل والمقايسة، بل يجب تجاوز ذلك لأنّه کان انعكاساً لحالات سياسية، حيث تتلاشى وتنعدم القيم الدينية في مثل هذه الحالات وتقفز مكانها الأهواء والأمزجة والميول والانفعالات النفسية، ومن المهمّ أن يكون للحوار بين الديانتين الإسلامية واليهودية السيادة على أرض الواقع، وعدم السماح للاتجاهات والسياقات السياسية المبنية أساساً على النزاعات والرؤى الضيقة أن تكون لها الغلبة.
جهود رابطة العالم الإسلامي
إنّ الحوار الاسلامي ـ اليهودي ضروري لأکثر من اعتبار، لأنّ تطورات ومستجدات الأمور والأوضاع في منطقة الشرق الأوسط بصورة خاصة، تدعو وتحث لكي يبذل علماء الدين من الديانتين ما في وسعهم لإيجاد أرضية مناسبة لحوار إيجابي يغني العلاقة الإنسانية بين الديانتين ويثريها ويدفعها بسياقات تخدم مبادئ الخير والحق والأخوة الإنسانية، وهذا ما أكّده أمين عام رابطة العالم الإسلامي الشيخ محمد العيسى من خلال حرصه الكبير على تنظيم مؤتمرات ولقاءات تجمع بين علماء المسلمين وحاخامات اليهود لإرساء أرضية خصبة لتوحيد الرؤية وتوطيد العلاقات وترسيخها، بالبحث عن الروابط المشتركة ودعمها عبر القنوات المختلفة، والاستفادة من الاختلافات بينهما لما يحقّق الإثراء الفكري والمصلحة المشتركة للطرفين. وفي هذا السياق، نبذل شخصياً جهوداً فعالة ومباشرة في بناء علاقات قوية مع الحاخامات اليهود، والدعوة للتعاون الانساني المشترك والانفتاح لتحقيق السلام الابراهيمي والاستقرار في المنطقة التي تشهد توتّرات سياسية وأمنية خطيرة.