وهبي قاطيشه

بين الأمس واليوم... هل يصمد لبنان؟

19 كانون الثاني 2021

02 : 00

بالأمس ولدت الجمهورية الأولى مع الإستقلال، واستبدلت بالجمهورية الثانية مع الإحتلال، بينما تتسارع اليوم نحو الزوال. فهل يصمد لبنان، وإلى متى؟

طبعت "الجمهورية الأولى" مرحلة الإستقلال فازدهر لبنان إقتصادياً ومالياً لدرجة أن "ليرته" الوطنية كانت تستقوي على الدولار الأميركي وأشباهه؛ وتؤكِّد دور بيروت الريادي لتصبح جامعة الشرق ومكتبته ومستشفاه ومصرفه... كما جنّب أرضه من الإحتلال الإسرائيلي يوم سقطت أراض عزيزة، ومن بينها القدس، في يد الإحتلال. كان ذلك قبل أن يُسقط قادة لبنانيون، بدعم الغريب، الدولة على بعض أراضيها، طمعاً بأدوار داخلية على حساب سيادة بلدهم؛ ويوم تأكدوا من خطيئة عمرهم وندموا، كان قد سبق السيف العزل.

إسقاط الدولة في لبنان، والأطماع الرخيصة بالمواقع، أدّيا إلى الإحتلال المباشر للبنان، وتطبيق دستور"الجمهورية الثانية"، التي تميَّزت بقمع الحريات واعتقال الأحرار... ووضع العصي في دواليب النهوض الإقتصادي. وهكذا حقّق النظام السوري هدفه باحتلال لبنان تعويضاً له عن ضياع الجولان، وترضية الشعب السوري الباحث عن تغطية الهزيمة المُرَّة، بانتصار وهمي في استتباع لبنان، مروِّجاً لنظرية "حلف الأقليات" التي كان راغباً بتسويقها، لتقوية وتثبيت هيمنته في المنطقة، خصوصاً بعد الحلف "المقدّس" الذي عقده مع قادة إيران الجدد. فتحوَّل لبنان "محافظة" سورية تفتقر حتّى إلى الحكم الإداري الذاتي.

اليوم تطوّر الوضع اللبناني من "سويسرا الشرق" في ظلِّ الجمهورية الأولى، مروراً بالإحتلال السوري في ظلِّ الجمهورية الثانية، إلى رهينة عاجزة ومحطّمة في يد القبضة الفارسية. فـ"المحافظة" التي كانت تفتقر إلى الحكم الذاتي في ظلِّ الإحتلال السوري، تلاشت اليوم وزالت معالمها؛ لأنّ بعضاً من أبنائها يرهنون مصيرها لمصلحة الدولة في طهران. فالحدود الجغرافية للبنان لم تعد قائمة؛ وأموال اللبنانيين تُهدر بتواطؤ من بعض المسؤولين في لبنان لدعم النظام السوري، والتصدير والنقل البرّيّ يختنقان على معبري المصنع والعبودية بسبب عدم التوازي في المعايير على جانبي المعبرين اللذين يتحكّم بهما الجانب السوري. والهجر العربي للبنان الذي تسبّبت به سياسة المنظومة الحاكمة في بيروت يتَّجِهُ بالدولة إلى الإفلاس. مصالحنا الحيوية مع الأشقاء العرب، خصوصاً دول الخليج العربي، ضُرِبت، وعلاقاتنا الديبلوماسية مع أصدقائنا في العالم المتطوّر تدحرجت نزولاً، من شارل مالك وغسان تويني... إلى ما نحن عليه اليوم؛ لدرجة أنّ هذا العالم بات لا يعترف بنا عندما يرفض مساعدتنا عبر الدولة، ويكتفي بذلك عبر المنظّمات غير الحكومية والجمعيات، فتتغلّب مشروعية هذه الأخيرة على مشروعية الدولة؛ وتواصلنا مع المؤسسات المالية الدولية الداعمة للبنان، مشروط بأن ينظّف بعض مسؤولي الدولة "سجلّهم العدلي" في النهب والسرقة والفساد؛ ونظامنا المصرفي (فخر المعجزة اللبنانية) ينهار أمام أعيننا، بينما يتحوَّل المواطنون متسولين لأموالِ جنى عمرهم على أبواب المصارف؛ وطائرات العدو التي كنّا نطلق النار عليها في سماء الجمهورية الأولى إذا عبرت الحدود الجنوبية، نراها اليوم "تزهو" في سماء الجنوب والشمال والبقاع والجبل، ولا نطلق عليها سوى الشتائم والسباب، عاتبين وصارخين بوجه بعض الدول "ليش ما بتعطونا سلاح"! وكأنّ دول العالم جمعيات خيرية لتوزيع الأسلحة على الشعوب الإتكالية.

وسط كلّ هذه المآسي والكوارث، يشهد اللبنانيون اليوم على تفكُّكِ الدولة، وعجز الأغلبية الحاكمة عن تشكيل حكومة إنقاذ: صحّي وإقتصادي؛ عندما تطغى المحاصصات والفساد على تركيبة الدولة، في غياب المسؤولية الخلقية تجاه معاناة الناس ووجعهم. فهل يصمد لبنان؟ وإلى متى؟

يرتبط مصير لبنان كما هي كل الأوطان بإرادة شعبه. فالمحتلّون والمستبدّون الذين حاولوا ويحاولون اليوم تغيير وجه لبنان الحضاري والسيادي هم واهمون حتماً؛ فما نعانيه اليوم لا يعدو كونه حالة مرضية مرتبطة ببعض جيل اليوم من قادة لبنان. فالإحتلال السوري لم ينجح في محاولة إلغاء سيادة لبنان وتغيير ثقافة شعبه الديموقراطية. والتسلُّط الإيراني، الذي يستند على العنف ويأخذ الوطن رهينة، مصيره الفشل المحتوم. فقد قال غاندي: "النصر المبني على العنف هو هزيمة، لأنه موقت"، والأمثلة الشواهد في التاريخ القديم والمعاصر خير دليل على تأكيد المصير المحكوم بالسقوط لهذه الأنظمة التي لم يتبقّ منها سوى بعض من ديكتاتوريات الشرق الأوسط، وقلَّة من حلفائها في العالم.

ويبقى السؤال: إلى متى؟

هذه المتى مرتبطة بإرادة الشعب اللبناني؛ وكلُّ ما عدا ذلك هو هراء. فالمآسي التي نعيشها اليوم تفتح أمام المواطنين أبواب الخيارات السياسية الصحيحة التي تعتبر وحدها كفيلة بالتغيير وإنقاذ الوضع المتردّي بعد التجارب التي خاضوها مع ممثّليهم الحاليين، لأنّ مصير الأوطان في الأنظمة الديموقراطية الحرّة هو بيد شعوبها؛ والحرية والديموقراطية في لبنان مقدّستان؛ وفيما يؤكِّد المبدأ التالي للعلم السياسي: "يستحيل الإنقلاب على الديموقراطية إلاّ بالديموقراطية" ؛ لذلك لا يمكن التغيير في لبنان إلّا بالديموقراطية، هذه الديموقراطية تجسِّدُها إرادة الشعب في التغيير، والإرادة الشعبية تترجمها الإنتخابات النيابية. لذلك لا خيار أمام اللبنانيين في التغيير إلاّ بالعودة إلى إنتاج سلطة جديدة تشبه نضالاتهم بأول انتخابات نيابية، ينتج عنها مجلس نيابي جديد، يتولّى بدوره إنتخاب رئيس جديد للجمهورية، بحيث تتشكّل حكومة منبثقة عن الأغلبية النيابية، تتولّى إدارة البلاد ومحاربة الفساد، فعلاً لا قولاً. التغيير نحو الأفضل هو فعل إرادة اللبنانيين وحدهم، ولكن فقط عبر صناديق الإقتراع، تطبيقاً لقول "المهاتما" غاندي، الذي أسقط أعتى الإحتلالات وحرَّر مئات الملايين من البشر (الهند) من دون ضربة كفّ.

طبعاً، الهدف من هذا العرض ليس العودة إلى تطبيق دستور الجمهورية الأولى، الذي استهلكته الأزمات والحـــروب؛ فـ"الطائف" بات دستـور الجمهورية الدائـــــم، واللبنانيون متمسّكون به، إلاّ إذا ارتأوا تطويره على البارد؛ إنّما الهدف منه هو الدعوة إلى التشبُّه بكل قادة ومسؤولي الجمهورية الأولى، الذين رحلوا عنّا من منازل متواضعة، لكن من مكانات عالية في تاريخ لبنان. فهل يجرؤ أحدٌ من مسؤولي اليوم أن يتوجَّه بالسؤال، حتّى إلى موظفٍ بسيطٍ في الدولة بالقول: "من أين لك هذا"؟ طبعاً لا. والسبب معروف.

بين الأمس واليوم توقٌ إلى ضبط حدود لبنان؛ توقٌ إلى ازدهار لبنان؛ توقٌ إلى دور لبنان التاريخي في الشرق والعالم؛ توقٌ إلى مسؤولين يعيشون معاناة شعبهم. إنَّه توقٌ إلى جمهورية قوية يصنعها أبناؤها الأحرار.