المحاميان خليل وفارس زعتر

تعميم مصرف لبنان رقم 151 مخالف للقانون وموافقة المودعين على تطبيقه باطلة ولا قيمة قانونية لها

11 شباط 2021

09 : 34


منذ أكثر من سنة، وعلى أثر إنكشاف الوضع المالي والمصرفي المزري، لجأت المصارف اللبنانية بالاتفاق التام فيما بينها إلى وقف التحويلات بالعملات الأجنبية إلى الخارج، وإلى تحديد المبلغ الذي بإمكان المودع سحبه من مدخراته بالعملة الأجنبية ثم عمدَت إلى دفعه له بالعملة الوطنيّة المتهاوية بسعر أدنى بكثير من سعر الصرف في السوق الحرّة.


ما قامت به المصارف يشكِّل في الواقع ممارسةً من خارج القانون بتغطيةٍ من مصرف لبنان، مخالفة للدستور والقانون على حدٍّ سواء، لأنها مارسَتْ فعلياً ما يُسمى بـ (الكابيتال كونترول) Capital Control، أي سياسة ضبط حركة رأس المال، وكذلك ما يُسمى بـ (الهيركات) Haircut، أي اقتطاع جزء من الإيداعات، وهيَ سياسات مالية خطيرة جداً على الإقتصاد والمجتمع عامة، وعلى حياة الناس اليومية، لا يمكن حتى لشبه دولة السماح به من دون دراسة ودراية، وعبرَ قوانين واضحة تحافظ على حقوق الناس، ونتاج حياتهم، وعرق جباههم، وتعطيهم الثقة إن لم يكن بحاضرهم فعلى الأقل بمستقبل مستقرّ لأولادهم وأحفادهم، ولما تبقى من أعمارهم المسروقة في بلد منهوب منكوب بالفساد وانعدام الرؤية وانطفاء الضمير.


والأفظع من كلّ ذلك، هو أن المسؤولين، وبالأخص منهم المسؤولين المباشرين عن القطاع المصرفي، كحاكم مصرف لبنان والعاملين معه، ووزير المالية، يعلمون علمَ اليقين أنَّ ما قامت به المصارف يشكِّلُ أعمال تعدٍّ سافرة على حقوقٍ ثابتة مشروعة. فحاكم مصرف لبنان أعلن في أوائل تشرين الثاني 2019 أنه لا خطط لديه لفرض الكابيتال كونترول Capital Control أو الهيركات Haircut، وأنه لن يكون هناك هيركات لأنَّ المصرف المركزي لا يدعم هذه الفكرة. وفي أوائل كانون الثاني عام 2020 أعلن الحاكم أن "الكابيتال كونترول" Capital Control يغيّر طبيعة الاقتصاد. وهوَ قرار يعود إتخاذه إلى الحكومة ويتطلب إقرار قانون في مجلس النواب. وعاد في أواخر شهر كانون الثاني 2020 فأعلن أن القانون لا يسمح بالهيركات Haircut على الودائع. وبدوره أكّد وزير المالية الدكتور غازي وزني "في حديث لمحطة (LBCI) أن كل ما يُحكى عن ألـ Hair Cut غير دقيق، وهوَ يحتاج إلى قانون، وبالتالي لم تتطرّق الحكومة له، لا من قريب ولا من بعيد".


ما ذكره حضرة حاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة وحضرة وزير المالية الدكتور غازي وزني من أن "الهيركات" (haircut) يحتاج إلى قانون، وكذلك ما أوضحه حاكم مصرف لبنان من أن "الكابيتال كونترول" (capital control) "يغيّر طبيعة الاقتصاد" ويحتاج بدوره إلى قانون، صحيح - بالحدّ القانوني الأدنى- إن كان هناك ما يمكن تسميته "بالحد القانوني الأدنى". نقول هذا لأنه إذا كان "الكابيتال كونترول" "يغير طبيعة الاقتصاد"، فإن اعتماده لا يتطلّب فقط إقرار قانون بل تعديل الدستور نفسه الذي نصّ صراحة في الفقرة (هـ) من مقدمته على أن "النظام الاقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة"، كما أن المادة 15 من الدستور تنص على أن "الملكية في حمى القانون فلا يجوز أن ينزع عن أحد ملكه إلاّ لأسباب المنفعة العامة في الأحوال المنصوص عليها في القانون وبعدَ تعويضه منه تعويضاً عادلاً".


لكنَّ حاكم مصرف لبنان رغم معرفته بأن "الكابيتال كونترول" و "الهيركات" لا يمكن اعتمادهما إلا بموجب قانون يصدر عن مجلس النواب لجأ إلى تغطية ممارسة المصارف لهذين التدبيرين عن طريق إصدار "تعميم أساسي للمصارف رقم 151" بتاريخ 21/4/2020 لتطبيق القرار الأساسي الصادر عنه برقم 13221 بذات التاريخ والمتعلق "بإجراءات استثنائية حول السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الأجنبية".


بعد صدور هذا التعميم رقم 151 عن حاكم مصرف لبنان صارَت المصارف تمارس عمليّتي "الكابيتال كونترول" و"الهيركات" على السحوبات وعمليات الصندوق نقداً من الحسابات أو المستحقات العائدة لعملائها بالدولار الأميركي أو بغيرها من العملات الأجنبية بالاستناد إلى هذا التعميم؛ وصارت تطلب من عملائها الموافقة على ذلك خطياً في المصرف أو إلكترونياً لدى إجراء السحوبات من الصرَّاف الآلي. وحتماً في حال رفض العميل الموافقة على ذلك، فإن المصرف يمتنع عن إعطائه المبلغ الشهري المسموح له سحبه وفق الحدود المرسومة من المصرف. ومما لا شك فيه أنّ العميل يجد نفسه "مكرهاً" على "القبول" لحاجته الماسة إلى أمواله ليستطيع إعالة نفسه وعائلته بحدودٍ أصبحت أدنى مستوىً مما كان معتاداً على العيش فيه قبل الإجراءات التعسُّفيّة المفروضة على أمواله، وعلى حرِّيته وحقوقه بالتصرف بأمواله المودعة بالعملة الأجنبية، التي هي غالباً بالدولار الأميركي، لدى المصارف.

وفضيحةُ الفضائح ما تضمّنه قرار حاكم مصرف لبنان رقم 13221 موضوع تعميمه رقم 151، سواء أكان ذلك في أسبابه الموجبة أو في صلب مواده. نكتفي في هذا المجال بالملاحظات التالية بشأنها:

جاء في الأسباب الموجبة:


"إن حاكم مصرف لبنان،

"بناءً على قانون النقد والتسليف سيما المادتين 70 و174".

والحقيقة هي أنه لا شيء في قانون النقد والتسليف ولا في المادتين 70 و174 منه ما يسمح لحاكم مصرف لبنان بأن يجيز للمصارف ممارسة "الكابيتال كونترول" و"الهيركات"، اللذين نصَّ القرار المذكور على السماح لها بممارستهما مواربةً دون أن يسميهما صراحةً. ولو كان قانون النقد والتسليف أو المادتان 70 و174 منه، يجيزان ذلك، لما أعلن حضرة الحاكم نفسه سابقاً، وبصوتٍ عالٍ، ووضوح لا يقبل التأويل، أن "الكابيتال كونترول" و"الهيركات" يحتاجان إلى قانون من مجلس النواب وأن "الكابيتال كونترول" يغير طبيعة الاقتصاد".


وأفظع ما في الأسباب الموجبة لقرار الحاكم ما جاء في الفقرة الأخيرة منها حيث نقرأ:


"وبناءً على الصلاحيات التي تعود للحاكم بغية تأمين عمل مصرف لبنان استناداً إلى مبدأ استمرارية المرفق العام".

هذا السبب الموجب يطرح أكثر من علامة استفهام: ما هو الرابط بين "تأمين عمل مصرف لبنان" وبين ما تمارسه المصارف "بمباركة " من مصرف لبنان على أصحاب الودائع بالعملات الأجنبية؟! والسؤال الأخطر: ما هو الموجب لتذرّع حاكم مصرف لبنان بـ "مبدأ استمرارية المرفق العام" لتغطية عمليات "الكابيتال كونترول" و"الهيركات" التي تمارسها المصارف؟ إذ من المعروف قانوناً أن لجوء "المؤسسة العامة" أو أية مؤسسة تؤدي خدمة عامة أو تدير مرفقاً عاماً إلى التذرع "بمبدأ استمرارية المرفق العام" إنما يحصل عادةً عندما تشرف ولاية أو صلاحية عمل المؤسسة القائمة بالخدمة العامة على الانتهاء، فتلجأ إذ ذاك إلى هذا المبدأ لتتلافى التوقّف عن العمل مع ما يستجرّه توقُّفها من ضررٍ بالمصلحة العامة.

أما الجواب على هذه التساؤلات الجوهريّة فيمكنُ استنتاجُه بوضوح من المادة الثانية من قرار حضرة حاكم المصرف المركزي المشار إليه التي تنصّ أنه "على المصرف المعني أن يبيع من مصرف لبنان العملات الأجنبية الناتجة عن العمليات المشار إليها في المادة الأولى أعلاه"، أي عمليات "الكابيتال كونترول" و"الهيركات" التي تمارسها المصارف بتغطية وبمباركة من مصرف لبنان مثلما أوضحنا آنفاً. وبكلمة أخرى، إن مصرف لبنان يعيدُ تكوين احتياطه من العملات الأجنبية من أموال مودعي المصارف وبإجراءات لا قانونية ولا دستورية بل حتى لا أخلاقية، لأن التعميم رقم 151 والقرار المعمّم على المصارف بموجبه الصَّادرين عن حاكم مصرف لبنان يتعلَّقان بإيداعات تعود إلى ما يزيد على 80 % من المودعين، أي، إنَّها تطال بالدرجة الأولى إيداعات صغار ومتوسِّطي المودعين من أصحاب المهن الحرة وغالبية التجار والعمال والمزارعين والمعلمين والقضاة وقادة وعناصر الجيش والقوى الأمنية والموظَّفين والقوى الكادحة عموماً. ما تقوم به المصارف بموقف موحّد مدعوم ومغطّى من مصرف لبنان يشكِّل جرائم جزائية كبرى تقع تحت قبضة القوانين المرعيَّة الإجراء لجرائم الاحتيال والسَّرقة وإساءة الأمانة، خاصةً وأن من يمارسونها يقومون بذلك مع علمهم بأنها غير قانونية، وأن تعميم مصرف لبنان رقم 151 المعدَّل بدوره غير قانوني ولا يوفِّر غطاءً مشروعاً لها.


وغنيٌ عن البيان أن موافقة المودع على قبول المبالغ بالعملة اللبنانية لقاء المبلغ المحدود بالعملة الأجنبية التي "تتكرَّم" عليه به المصارف من أمواله الحلال لا قيمة قانونية لها على الإطلاق، لأنه غير مخيّر في القبول أو الرفض، بل "مكره" على القبول لتأمين معيشته وإحتياجاته. وبالتالي، فعندما يصبحُ هناك بديل عن هذه اللادولة بالمفهوم الحقوقي السليم، ولو كان البديل "شبه دولة"، فإن المودع بإمكانه مداعاة المصارف والمطالبة بالتعويض عن الخسائر التي أنزلتها به هذه العمليات اللاقانونية واللاأخلاقية بل الجرمية. وهذا التعويض أقله التعويض عن الخسائر المتمثلة بالفرق بين سعر العملة اللبنانية التي "تتكرم" بها عليه المصارف لقاء العملة الأجنبية وسعر صرف هذه الأخيرة في السوق الحرّ المتناسب مع قوَّتها الشرائية الفعلية.


ومن جهةٍ أخرى، إنّ تصريح حضرة وزير المالية الدكتور غازي وزني في 11 نيسان 2020 المذكور أعلاه المتعلق بـ "الهيركات" والذي جاء فيه أنه "يحتاج إلى قانون، وبالتالي لم تتطرق له الحكومة، لا من قريب ولا من بعيد"، أقلّ ما يقال فيه أنه تصريح مؤسف للغاية. إذ إنَّ كون "الهيركات" يحتاج إلى قانون، يفرضُ فرضاً إلزامياً على حضرة وزير المالية عدم القبول بممارسته خارج إطار وجود أي قانون، ويفرض عليه فرضاً إلزامياً أيضاً أن يطرح المسألة على الحكومة، لا أن يغضّ الطرف مع الحكومة عن ممارسة علنية وقحة لا قانونية ولا أخلاقية يجري بواسطتها امتصاص دماء اللبنانيين، وإغتيال آمالهم وأحلامهم والتعدي على حرياتهم وحقوقهم المكرسة دستورياً من خلال تكبيلهم وتقييد حركتهم وحبسهم وشلّهم بواسطة تجميد مدخراتهم وسرقتها بالأسلوب الاحتيالي التآمري الموصوف أعلاه.


منذ أكثر من سنة اندلعت ثورة 17 تشرين الأول 2019، وتدفقت جموع اللبنانيين المستيقظة الهلعة على الواقع المخيف تطالب بالتغيير وببناء دولة ترعى مصالح شعبها وتؤمِّن له الاستقرار والأمان والعيش الكريم في ظل سيادة القانون والعدالة. مضت سنة على الثورة السلمية الرائعة دون أن يتحقق الحدّ الأدنى مما طمح إليه المنتفضون. فازداد الفقر، وتفاقمت المآسي، وتوالت النكبات من انفجار 4 آب المريع إلى الخيبة الكبرى بعدم انجاز التدقيق المحاسبي الجنائي وتكاثفت الظلمات، والوطن ينحدر أكثر فأكثر إلى جحيمٍ لا قرار له، في ظل حكم لا يقدّم أية حلول مقنعة لمآسي الناس ومعضلاتها المعيشية اليومية. المنطق السليم يقضي بأن يحتلّ تحرير مدخرات اللبنانيين المرتبة العليا في سلّم الأولويات التي على المسؤولين معالجتها، إذ إن عدم معالجتها يعني الاستمرار في سلب حرية هذا الشعب وقهره وفرض دكتاتوريات عليه من الفساد والعنف والفوضى والضياع. ولا يمكنُ فصل حرية المرء في التصرّف بأمواله وحقوقه عن حريته الشخصيّة، كما لا يمكنُ أن تُطلق عجلة النهوض في كافة ميادين الحياة ومنها النهوض الاقتصادي من دون تحرير طاقات الشعب التي هيَ وحدها من يبني الدولة وينهض بجميع أوجه الحياة فيها.


مضى ما يزيد على السنة منذ انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، من دون اتخاذ أية تدابير أو إجراءات إدارية حكومية أو أية خطوات تحقيقية أو تشريعيّة بنّاءة في مجلس النواب تتعلق بالكشف عن الأموال المهرّبة إلى الخارج والتي تطالها الشبهات. ترى، ألا تكفي سنة لتمكين الفاسدين من تغطية آثار مفاسدهم وثمارها المتمثلة بالثروات المنهوبة؟!

نتألم ونخجل للحالة التي وصل إليها هذا البلد الذي كان مرشحاً للعب دورٍ حضاري فريد في هذا الشرق المنكوب والمشدود بالتخلف والتقاليد البالية إلى عصور بائدة. وما أصدق الآية القرآنية الكريمة القائلة: "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم".