بول مرقص

الحياد: الآلية القانونية وشروط النجاح

4 آذار 2021

02 : 00

حميدة هي دعوة البطريرك الماروني إلى "الحياد" وإلى "مؤتمر دولي". لكنّ دعوته هذه بالرغم من تزخيمها، لا تكفي بالطبع، من دون تجسيدها في النصوص ووضعها موضوع التنفيذ، لِما يمثّله البطريرك من مرجعية وطنية تاريخية، بحيث تُكلّل جهوداً سابقة في الحياد (اقتراح قانون حزب الكتائب 2013، إعلان بعبدا 2012، مبادرات مفكّرين لبنانيين مثال فؤاد الترك وغسان تويني...).

المفهوم والآلية

في ما يلي بضع ملاحظات مختصرة حول المفهوم والآلية:

1ـ في لبنان يتمّ الخلط بين مفاهيم مختلفة يجب التفريق بينها، حيث أنّ لكلّ منها شروطها، وهي بتبسيط كلّي: "الحياد" (يصدر غالباً بموجب إعلان عن دولة ترغب في عدم الدخول في صراعات دولية)، "التحييد" (يمكن أن يصدر عن الدول لصالح دولة معيّنة لإبقائها بمنأى عن الصراعات)، "التدويل" (يأتي غالباً بموجب قرارات دولية لـ"حماية" دولة معينة كما بالنسبة للقرارات 1559 و1701 و1680 و1757 وما سبقها من قرارات)، "المؤتمر الدولي" (من شأنه تقديم دعم دولي لمساعدة دولة معيّنة على النهوض)، و"الوصاية الدولية" (خِلافاً للشائع على منصّات التواصل الاجتماعي في لبنان، لا تتناول الوصاية الدولية في المبدأ دولة ذات سيادة وعضواً في الأمم المتّحدة كلبنان. وهذه الوصاية بدأت بالتراجع منذ انهيار عصبة الأمم وتنظيم الأمم المتّحدة لها بموجب الفصلين 12 و13 من ميثاقها لعام 1945 حتّى اضمحلّت مظاهر الوصاية بعد استقلال جزيرة "بالاو" عام 1994...ولم تعد الدول الكبرى ترغب في تحمّل أعباء الدول الصغرى أو الفاشلة).

2ـ شروط تدخّل الأمم المتّحدة: حرصاً على عدم التدخّل في الشؤون الداخلية واحترام سيادة الدول الأعضاء فيها، لا تتدخّل الأمم المتحدة عموماً إلا في حال تحقّقت إحدى حالتين: دعوة الدولة المعنية الأمم المتّحدة إلى التدخّل وموافقة هذه الأخيرة، أو تبرير مجلس الأمن تدخّله وِفق المادة 39 وبعض الأحكام التي تليها من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتّحدة في حال "تهديد السلم والأمن العالميين"، وهذا يتطلّب موافقة 9 دول على الأقل من الأعضاء الـ 15 التي تؤلّف المجلس، وعدم استعمال دولة دائمة العضوية حقّ النقض- الفيتو، وجميع هذه الشروط غير متوافرة في حالة لبنان راهناً.

3ـ حياد لبنان: بالرجوع إلى بيت القصيد، فإنّ الحياد يتطلّب تعبيراً إرادياً عن رغبة الدولة وتجسيداً له بوضوح بموجب نصّ قانوني وممارسته كما حصل مع النمسا وهي من أولى دول الحياد. في حالة لبنان، ثمّة نص ّدستوري واحد على الأقل وجب التفكير في تعديله هو مقدّمة الدستور، التي تنصّ في الفقرة "ب" منها على أنّ لبنان عضو مؤسّس وعامل في جامعة الدول العربية والأمم المتّحدة وملتزم مواثيقهما، حيث يعتبر من المتعذّر أن يكون لبنان محايداً تماماً وهو في هذه الوضعية، خصوصاً وأنّه انضمّ إلى اتفاقيات هذه المنظمة الاقليمية مثال معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي (1950). وربّما لا يكون من الضروري خروج لبنان تماماً من هذه الوضعيات، لأنّ حياده المنشود هو حياد ايجابي كما طرحه البطريرك، أي عدم ترك الحقوق والقضايا المحقّة، ولأنّ الأعمال الإعدادية لميثاق الجامعة ووثائق اجتماعاتها منذ إنشائها تنصّ على أنّ لبنان "دولة مساندة وليس دولة مواجهة". في مطلق الأحوال، لتعديل الدستور يجب التوافق، وإلا فموافقة أكثرية ثلثي عدد أعضاء الحكومة (حسب المادة 65 من الدستور) وثلثي مجموع أعضاء مجلس النواب (المادة 77 منه) وهو الأمر الذي يبدو متعذّراً راهناً.

وبالتوازي مع الاجراءات الداخلية هذه، الصعبة مع حكومة مستقيلة، يقتضي توفير مظلّة إقليمية لدول الجوار كي لا تعوق إعلان الحياد، ثمّ الذهاب به إلى الجمعية العامة للأمم المتّحدة – لا مجلس الأمن كما ذكر صاحب الغبطة في إحدى عظاته الأوائل ذات الصلة – وذلك على غِرار ما فعلت تركمانستان (2017) التي حظيت باجماع 185 دولة عضو في الجمعية العامة على حيادها من دون حاجة لتصويت، وكذلك رئيس مونغوليا في 29 أيلول 2015 حينما قدّم تصريحاً بحياد دولته إلى الجمعية العامة.

الأمم المتّحدة في ذلك إذاً تتعاطى مع لبنان الدولة صاحبة السيادة، وليس مع مكوّنات شعبية أو مرجعيات وطنية أو دينية في البلاد إلا على سبيل تمهيدي لبلورة التعبير الوطني السيادي للدولة السائرة إلى الحياد.

4ـ شروط النجاح: بقدر ما نجحت مبادرة عدد من الدول إلى إعلان حيادها طوعاً مثال سويسرا (1815) ومن تلاها من الدول كالسويد والنمسا وفنلندا، بالقدر عينه أخفقت تدخّلات الأمم المتّحدة المباشرة وغالباً تحت الفصل السابع كمآسي تجارب الكونغو وهاييتي والصومال وليبيا والعراق واليمن.. لذلك فالتدخّل الخارجي لا يقع ولا يأتلف مع روحية الحياد ولا مع قيام الدولة في مطلق الأحوال.

لذلك تتمثّل الخيارات المتاحة في اتجاهٍ إلى الحياد و/أو عقد مؤتمر دولي داعم. وإذا كانت آلية "الحياد" صعبة التحقيق وطويلة الأمد لجهة توفير التعديلات الدستورية والتوافقات الإقليمية، فيمكن للبنانيين، في حال تعذّرت هذه الآلية، الذهاب في المرحلة الانتقالية، لو صفت النيّات، إلى الحياد الذاتي كمجرّد تعبير سياسي وبمثابة خطوة أولى، بموجب قانون عادي أو أقلّه بيان وزاري يكون شرط نجاحه الالتزام به، لا خرقه قبل أن يجفّ حبره، بالتوازي مع مؤتمر دولي داعم كما يطرحه البطريرك. وهذا الأمر الأخير ربّما يكون الحلّ الأكثر ترجيحاً والذي لا بدّ أن تتلقّفه الأمم المتّحدة بالتعاون مع دول عظمى صديقة، بالنظر إلى الزخم الوطني والشعبي المرافق لدعوة البطريرك والنفع المحض الذي يعود به على الجميع لجبه المخاطر البنيوية المحدقة بالبلاد، وهو لا يتطلّب تعديلات دستورية أو تغييرات بنيوية أساسية أو توافقات عارمة. لكنّ هذا الحل الممكن، يبقى أشبه بالعلاج المسكّن ولا يرقى إلى الجراحة المطلوبة.

MISS 3