عيسى مخلوف

وقفة من باريس

شاعر المدينة والحداثة

10 نيسان 2021

02 : 00

شارل بودلير

تحتفل فرنسا هذا الشهر بالذكرى المئويّة الثانية لولادة الشاعر شارل بودلير، أحد مؤسّسي الحداثة الأدبيّة في القرن التاسع عشر إلى جانب كلّ من رامبو ومالارميه ولوتريامون. يشتمل الاحتفال على مجموعة لقاءات وندوات وإصدارات حول حياة بودلير ونتاجه، إضافة إلى طبعات جديدة من كتبه، وفي مقدّمها كتابه الشهير "أزهار الشرّ". ولم تكن مدينة بيروت بعيدة عن هذا الحدث، فلقد أفردت الشهريّة الثقافيّة "لوريان ليتيرير" عددها الأخير للشاعر الفرنسي، شاركت في صياغته مجموعة من الكتّاب والنقّاد اللبنانيين والفرنسيين الذين تحدّثوا عن حضور هذا الشاعر الذي تجاوز تأثيره حدود بلاده، هذا الحضور الذي يعزوه الكاتب اللبناني باللغة الفرنسيّة ألكسندر نجّار، في تقديمه للعدد الخاصّ، إلى أنّ "عالَم بودلير يشبهنا، ولا يزال يُبهرنا ويحرّك مشاعرنا".

تتجلّى حداثة بودلير في البنية الفنّية التي اقترحها وفي الموضوعات التي تناولها، ومنها ما كان مثيراً للغاية في زمنه: الشرّ بأشكاله المختلفة، الانحلال الجسدي والمعنوي، التمرّد، الفساد، المثليّة النسائيّة... ومن خلال هذه الموضوعات، اقترب الشاعر من مناطق عميقة في النفس البشريّة فوضع المُثُل العليا مقابل اليأس، واستخرج الجمال من السُّوء. هذا المشروع الشعري لخّصه بودلير بقوله: "أعطيتني طينَك وجعلتُه ذَهَباً".

بالإضافة إلى ذلك، تكشّفت حداثة الشاعر في مقاربته موضوع المدينة التي تُمثّل، بالنسبة إليه، موضوعاً حديثاً لم يتناوله الشعر الفرنسي من قبل، فكان لباريس موقع خاصّ في نتاجه، سواء في قصائد "لوحات باريسيّة"، التي أَضافها إلى "أزهار الشرّ" في طبعته الثانية، أو في كتابه "سأَم باريس" الذي يتضمّن نصوصاً فتحت الطريق أمام قصيدة النثر وتركت أثرها على عدد كبير من الشعراء، ومن بينهم غِيُّوم أبولينير. كانت باريس، حينذاك، تشهد تحوّلاً كبيراً قاده المهندس الفرنسي البارون جورج أوجين هوسمان، في عهد نابليون الثالث، من خلال خطّة شاملة غيّرت معالم العمران والشوارع وأعطت المدينة طابعها الذي عُرفت به منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

لا يحضر بودلير في الشعر العربي بصورة مباشرة، بل بصفته تجسيداً لكتابة مختلفة هي النقيض للسائد والمألوف. من هاجس الحداثة يأتي الشعر العربي إليه وإلى تجارب بعض الشعراء المُحدثين الفرنسيين. يأتي إليه مأخوذاً بجماليّته ورؤيته الجديدة. لكن أطروحات الحداثة في العالم العربي جاءت أحاديّة الجانب، وحيدة ومكشوفة، متمرّدة وما حولها ثابت وساكن، بينما جاءت الحداثة الشعرية الغربية في سياق تغيُّرات كثيرة طاولت مختلف الحقول الفكرية والعلمية والتقنية والاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن أنّ التواصل بين الفكر والفلسفة والعلم من جهة، والنقد الأدبي من جهة ثانية، كان له دور مهمّ في ترسيخ مفاهيم الحداثة. ثمّة شعراء، من بودلير إلى إليوت، ومن أوكتافيو باث إلى إيف بونفوا، كانوا، هم أنفسهم، نقّاداً يتمتّعون بثقافة موسوعيّة ويستحيل الفصل عند بعضهم بين التفكير والإبداع، بين الشعريّة والشعر. بخلاف ذلك، لم يعرف العالم العربي، في أزمنته الحديثة، الفكرَ النقدي، الفكر الذي يرسم الحدود بين القديم والحديث، بين الكتب التي تشكّل إضافة بالنسبة إلى ما هو موجود ومؤلّفات أخرى ليست سوى كمّ وتراكم. وكيف يوجد هذا الفكر النقدي، بل كيف يستقيم التقدُّم، إذا لم يكن ثمّة صَون للحقوق والحرّيات؟

عندما وصلتُ إلى باريس، إثر اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان، لم أكن أتخيّل أنّ صورة العاصمة الفرنسيّة يمكن أن تكتمل من دون أسماء أولئك الشعراء والكتّاب الذين أعطوها مكانة أدبيّة تميّزها عن غيرها من المدن. في القرن التاسع عشر، كانت باريس عاصمة الثقافة العالميّة، وفي القرن العشرين، وإلى يومنا هذا، بقيت إحدى المدن التي تولي الثقافة أهمّيّة خاصّة، وتكون الثقافة فيها جزءاً من المشروع التنموي ككلّ. حتّى اليوم، وفي كلّ مرّة أزور فيها حديقة لوكسمبورغ، أذهب في اتّجاه تمثال بودلير الذي وجد مكانه هناك منذ العام 1936. أمرّ أمامه كما لو أنّي أحيّيه، كما أنّني أستحضره كلّما مررتُ بالمبنى الذي أقام فيه في جزيرة القدّيس لويس المجاورة لكاتدرائيّة "نوتردام". من هناك، ألتفت إلى نهر السين وطيور النورس التي تحوم فوق الماء حيث تتراءى لي كلمات الشاعر المتجذِّر في مدينته: "الفجر المرتعش في ثوب ورديّ وأخضر/ يتقدّم ببطء فوق السين المهجور/ وباريس المُعتمة تفرك عينيها...".


MISS 3