بين السياسة وقطاع الوجبات السريعة رابط وثيق!

12 : 00

في الولايات المتحدة وأوروبا، تراجعت مبيعات الوجبات السريعة بوتيرة ملحوظة منذ أواخر التسعينات. نَسَب المحللون هذا التغيّر إلى زيادة الوعي الصحي، وارتفاع تكاليف العمل، وانخفاض القدرة الشرائية بين الفقراء، ونشوء أذواق جديدة لدى جيل الألفية، وظهور خيارات غذائية "سريعة وصحية"، فضلاً عن تغيرات أخرى في السوق. أما شركات المشروبات الغازية والوجبات الخفيفة، مثل "كوكا كولا" و"بيبسيكو" و"نستله"، فلجأت من جهتها إلى الأسواق الناشئة لكسب الأرباح، كما أنها تبذل قصارى جهدها للحفاظ على مرونة أسواقها الجديدة.

لا تكتفي قطاعات تصنيع المشروبات الغازية والوجبات الخفيفة بالاستثمار في سلاسل المطاعم وآلات البيع في بلدان مثل المكسيك والبرازيل والهند، بل إنها تبني أيضاً تحالفات سياسية واجتماعية لتجاوز المعارضة السياسية وتجنب التدقيق العام والتنظيمات الصارمة المرتبطة ببيع منتجاتها.

تعاونت شركات مثل "كوكا كولا" و"نستله" عن قرب مع مسؤولين في مجال الرعاية الصحية في المكسيك لوضع برامج مبتكرة للصحة العامة، مع التركيز مثلاً على تجنب البدانة والنوع الثاني من مرض السكري. كذلك، شاركت تلك الجهات في مبادرات لمكافحة الفقر وتعزيز التنمية الاقتصادية، ما يسمح لسياسيين محددين بتعميق قاعدة دعمهم السياسي. في بعض الحالات، تواصلت الشركات مباشرةً مع فئات المجتمع. استمالت "نستله" الفقراء في البرازيل مثلاً عبر طرح برنامج توظيف سخي. أما "كوكا كولا"، فعمدت إلى تمويل مبادرات رياضية وصحية في المكسيك، فأصبحت بذلك جزءاً من الثقافة المحلية.

من المتوقع أن تعطي التحالفات التي تُطوّرها شركات الوجبات الخفيفة والمشروبات الغازية راهناً عواقب سياسية خطيرة مستقبلاً. من الطبيعي أن يتعرّض السياسيون الذين استفادوا من سخاء تلك الشركات لضغوط هائلة كي يكبحوا التنظيمات التي تحدّ من تسويق الوجبات السريعة وبيعها. لكن تُعتبر هذه الضوابط محورية بعدما زادت حالات البدانة والنوع الثاني من السكري بين الأولاد والفقراء في بلدان مثل المكسيك والبرازيل.البحث عن مجالات جديدة

فيما شهد قطاع الوجبات السريعة تراجعاً هائلاً في الدول الصناعية الغربية، سجلت مبيعات المشروبات الغازية والوجبات الخفيفة ازدهاراً كبيراً في الأسواق الناشئة. ارتفعت مبيعات الوجبات الخفيفة بنسبة 92% في البلدان النامية في العام 2002، بينما زادت مبيعات المشروبات الغازية حديثاً بأربعة أضعاف!

تكثر العوامل التي تجذب أكبر شركات إنتاج الوجبات السريعة إلى تلك الأسواق الناشئة. تتوسع قاعدة المستهلكين المنتمين إلى الطبقة الوسطى هناك، وحتى الفقراء يستطيعون إنفاق أموال إضافية في بعض الحالات بفضل برامج مكافحة الفقر. كذلك، ساهمت شبكة الإنترنت في توسيع الوعي بشأن الماركات العالمية، ما سمح للشركات الأجنبية باكتساب حصة من السوق بسرعة وسهولة. استفادت شركات الوجبات الخفيفة والمشروبات الغازية بدورها من هذه النزعات لفتح سلاسل مطاعم، وترويج آلات البيع، وتسويق منتجاتها بوتيرة مكثفة.

يبدو أنها مصمِّمة أيضاً على بذل قصارى جهدها لاستباق أي خطوات تنظيمية وثقافية أثّرت سابقاً على أدائها في أوروبا والولايات المتحدة. لتحقيق هذه الغاية، تسعى الشركات إلى رسم معالم المشهد السياسي والاجتماعي بما يصبّ في مصلحتها.

أصبحت المكسيك تحديداً بيئة حاضنة مهمة لهذا النمط الجديد من الأعمال. بَنَت "كوكا كولا" هناك شبكة قوية من الداعمين داخل الحكومة، ما بين رؤساء ومسؤولين بارزين في قطاع الرعاية الصحية. أما "بيبسيكو"، فذهبت إلى حد التعاون مع أمانة التعليم العام المحلية في العام 2007 لإنشاء برنامج من التمارين المدرسية بعنوان Vive Saludable Escuela (العيش في مدرسة صحية)، وكانت هذه المبادرة كفيلة بمنح الشركة نفوذاً سياسياً وتلميع صورتها أمام الرأي العام. كذلك، دعمت "نستله" الرئيس المكسيكي السابق إنريكي بينيا نييتو عبر تقديم بسكويت معبّأ لمصلحة برنامج مكافحة الجوع الذي تقوده حكومته.

لم يتدخل قطاع الوجبات السريعة في سياسة المكسيك فحسب، بل انخرط في مجتمعها أيضاً لتجنب الانتقادات العامة وزيادة المبيعات. أصبحت "كوكا كولا" الراعية الرسمية لأحداث رياضية كثيرة وانضمّت إلى شركات أخرى لتقديم هبات مربحة إلى الباحثين الأكاديميين والمنظمات غير الحكومية. وبفضل "إتحاد السكري المكسيكي" (منظمة غير حكومية)، نظّمت شركة المشروبات الغازية مناسبات مرموقة حيث شدّد العلماء على أهمية التمارين الجسدية أكثر من تحسين النظام الغذائي. في زمنٍ تحارب فيه المسكيك مشكلة تفشي البدانة (ارتفعت معدلاتها من 10 إلى 35% بين العامَين 1980 و2012)، يستطيع قطاع الوجبات السريعة التأثير على توجهات الرأي العام في مسائل التغذية والصحة!

تطغى ظاهرة مماثلة في البرازيل حيث تتمتع شركة "نستله" تحديداً بنفوذ كبير. خلال عهد لويس إيناسيو "لولا" دا سيلفا، تقرّبت الشركة السويسرية من أعضاء الكونغرس وأثرت على قراراتهم، تزامناً مع المشاركة في تطوير برنامج مكافحة الجوع الذي يقوده الرئيس بعنوان Fome Zero (الجوع المعدوم) من خلال تقديم أغذية متنوعة للفقراء. في المقابل، أشاد لولا بالشركة ومنحها أول "شهادة شراكة للجوع المعدوم" من الحكومة وساعدها على فتح مصنع جديد في ولاية "باهيا" في العام 2007. من وجهة نظر "نستله"، لم يكن استهداف الفقراء مجرّد انتصار سياسي بل وسيلة لحماية صورة الشركة أمام الرأي العام وتجنب الانتقادات وزيادة المبيعات. حتى أن الشركة ابتكرت برنامجها التوظيفي الخاص للفقراء باسم Nestlé AteVc، وقد منح رواتب محترمة خلال فترة الركود في العام 2011، حين كانت نسبة البطالة مرتفعة جداً.

على غرار المكسيك، توسّعت مشكلة البدانة في البرازيل حديثاً، فارتفعت معدلاتها من 15 إلى 18% بين العامَين 2010 و2014، ويتعلق السبب الأساسي بتراجع التمارين الجسدية، وسوء الخيارات الغذائية، وتسهيل الوصول إلى الوجبات السريعة. ومثل المكسيك أيضاً، نظّمت شركات المشروبات الغازية والوجبات السريعة في البرازيل مؤتمرات وطنية وموّلت أبحاثاً تُشدد على أهمية المسؤولية الفردية والرياضة أكثر من التغذية.

على صعيد آخر، حققت هذه الشركات تقدماً سياسياً قوياً في الهند، حيث عقدت "نستله" شراكة مع "هيئة سلامة الأغذية والمعايير" الوطنية لتدريب مراقبي المنتجات الغذائية. تتعاون "كوكا كولا" من جهتها مع الحكومات الهندية المحلية لتقديم خدمات ضرورية في مجال الرعاية الصحية (نتيجةً لذلك، فازت الشركة بجائزة "ياغيداري" المرموقة في دلهي في العام 2009). كذلك، اتفقت "كوكا كولا" و"بيبسيكو" على شراء كميات إضافية من الفاكهة من المزارعين الهنود لدعم حملة "صُنِع في الهند" التي أطلقها رئيس الحكومة ناريندرا مودي لإنشاء قطاع زراعي مستقل ومزدهر. فقدّمت إنديرا نويي، الرئيسة التنفيذية السابقة في "بيبسيكو"، دعمها العلني لجهود مودي الرامية إلى إعادة إحياء قطاع الزراعة الهش في الهند.

تحالفات كبرى

في ظل توسّع حالات البدانة والنوع الثاني من السكري في الدول متوسطة الدخل، من المتوقع أن تؤدي الاستثمارات السياسية والاجتماعية التي قام بها قطاع الوجبات السريعة إلى تعقيد رغبة تلك الحكومات في إقرار سياسات تنظيمية أكثر صرامة أو حتى عَكْسها بالكامل.

في المكسيك، بُذِلت جهود قانونية في شهر أيار الماضي لتحسين دقة أغلفة المنتجات الغذائية ووضوحها أمام المحكمة العليا. فاعتبرت هذه الأخيرة في حكمها النهائي أن الأغلفة المستعملة راهناً واضحة بما يكفي، وذلك رغم احتجاج المنظمات الغذائية والباحثين الأكاديميين. يتماشى قرار المحكمة العليا مع خيارات القطاع الغذائي الذي يفضّل ترك أغلفة المنتجات على حالها.

في البرازيل، نجحت شركات الوجبات السريعة في إقناع السياسيين بالسماح لها بتنظيم تسويق منتجاتها وبيعها بنفسها. أدت «الرابطة البرازيلية للمأكولات والمشروبات» (جماعة ضغط نافذة في القطاع الغذائي) دوراً محورياً في إقرار هذا التدبير الذي يخضع في المراحل اللاحقة لإشراف «مجلس سياسة التنظيم الذاتي» (منظمة مدعومة من الحكومة). لذا لم ينظم الكونغرس البرازيلي يوماً سياسات التسويق والبيع الخاصة بقطاع الوجبات السريعة، ولم يتطرق بجدّية إلى احتمال فرض ضرائب على المشروبات الغازية.

أخيراً، تعتبر حكومة مودي في الهند الشركات التي تشبه «نستله» و»كوكا كولا» و»بيبسيكو» أساسية لتطوير الزراعة. لذا لا تنوي دلهي الحد من تسويق وبيع منتجاتها. بفضل قرار مودي بأن تشمل جميع المشروبات الغازية المُنَكّهة 2% من الفاكهة التي يتم إنتاجها محلياً، ستصبّ أرباح تلك الشركات في مصلحة الأجندة السياسية والاقتصادية لرئيس الوزراء أيضاً. تُفكّر حكومة مودي بفرض ضريبة على الوجبات السريعة لكنها تخشى ردة فعل عدائية من القطاع، وهذا ما يمنعها حتى الآن من فرض تنظيمات أكثر صرامة على مستوى التسويق والبيع.أقدمت الحكومات في المكسيك والبرازيل والهند على خطوة جديرة بالثناء حين اعترفت بضرورة تحسين الصحة العامة. لكن للحفاظ على قوة هذه الجهود واستقلاليتها، يتعين عليها أن تحصر علاقة قطاع الوجبات السريعة بالحكومة والمجتمع المدني. ستكون هذه الضوابط بأهمية فرض الضرائب على «المواد الضارة» وتغيير عادات المستهلكين على الأقل، أو حتى أهم منها. لأخذ السياسة على محمل الجدّ إذاً، ثمة حاجة إلى الحد من تدخّل قطاع الوجبات السريعة فيها!


MISS 3