عيسى مخلوف

وقفة من باريس

المذابح في عين الإبداع

24 نيسان 2021

02 : 00

"الفنّان ووالدته" لأرشيل غوركي

إذا كانت الحروب مُرضِعَة العالم والضابطة لتاريخه وتوالي أيامه، فإنها صورة للتدمير الذاتي والمعنوي ومرادف للعنف والإبادات والمذابح على مرّ الزمن، ومنها المذابح التي ارتُكبت ضدّ الشعب الأرمني. وككلّ مذبحة، ومهما عمل القتلة على إخفائها وتأخّروا في الاعتراف بها، تبقى ماثلة في الذاكرة الجماعيّة تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل. تشهد عليها أيضاً، بالإضافة إلى التاريخ المكتوب، أعمال إبداعيّة تستوحي منها وتصبح منائر تخترق ظلام الحسابات السياسيّة واعتباراتها التي لا تولي شأناً للمآسي التي تصيب شعوباً بأكملها.

من لوحة الثالث من مايو (1814) الذي صوّر فيها الفنّان الإسبـــاني فرنسيسكو دي غويا تصفية عدد من المقاتلين الإسبان أثناء حملة نابليون بونابرت على إسبانيا، إلى لوحة غيرنيكا التي جسّد فيها بيكاسو أهوال الحرب الإسبانية، وبين اللوحتين أعمال عدد من الفنانين الأرمن ومنهم الفنّان الأرمني الأميركي أرشيل غوركي، الذي توفّي في الولايات المتحدة الأميركية في العام 1948، وهو أحد أكثر الذين جسّدوا من خلال أعمالهم مأساة الأرمن ومعاناتهم. كان طفلاً حين هرب مع والده إلى الولايات المتّحدة الأميركية. أمّا والدته فتوفّيت من الجوع في مدينة يريفان في العام 1919. يعود أرشيل غوركي إلى هذا الموضوع من خلال لوحته التي تحمل عنوان "الفنّان ووالدته"، وكذلك من خلال لوحات أخرى منهـا لوحة "المحراث والأغنية"، ولوحة "النَّزع الأخير" الموجودة حالياً، بجانب بعض أعماله، في "متحف الفنّ الحديث" في نيويورك. تَشي هذه الأعمال بالألم وفَقد الأحبّة والمجاعة بقدر ما تعكس الأمل والتطلّع إلى أرض بلاده الخصبة التي اضطرّ إلى مغادرتها، لكنّها ظلّت محفورة في نفسه وفي اللون والضوء اللذين تحفل بهما لوحاته. من الفنّانين الذين ارتبط اسمهم بالمذابح أيضاً، الفنان فاردج سورونيان (1860-1921) الذي يُعَدّ مؤسّس "فنّ التاريخ الأرمنيّ".

الإبداع الذي نهل من المجازر التي تعرّض لها الأرمن لا ينحصر فقط في الفنون التشكيليّة، بل طالعنا أيضاً في الأدب والمسرح والسينما والموسيقى والأغنية والرقص. في الأدب، يحضر اسم الشاعر أتوم يارجانيان، المعروف باسمه المستعار سيامانتو، الذي ينتمي إلى الشعراء الذين وصفوا المجزرة بصورتها الواقعيّة الفجّة من دون اللجوء إلى استعـارات وتوريـات، ولديه مجمـوعة قصائــد بعنوان: "أخبار دمويّة من صديقي"، كتبها إثر مجزرة أضنة. في العام 1915، اعتقل هذا الشاعر مع قرابة 250 كاتباً ومفكّراً ومثقّفاً وجرت تصفيتهم.

إلى ذلك، هناك عدد مهمّ من الروايات التي كُتبت بتأثير من هذه التجربة المروّعة وحملت أسماء كتّاب من جنسيات مختلفة منهم الكاتب النمسوي- الألماني فرانز ويرفل، الذي كان مقيماً في دمشق وشاهد فصلاً من مأساة اللاجئين الأرمن الذين نجوا من المذابح. تحكي روايته "الأيّام الأربعون لجبل موسى" عن أمر أعطته السلطة العثمانية في الثلاثين من حزيران 1915 ويقضي بتهجير أرمن جبل موسى. الذين هجروا لم يسلم منهم أحد، ومنهم من قُتلَ رمياً بالرصاص في ثكنة أنطاكيا. الأهالي الذين بقوا في الجبل هاجمهم الجيش بالمدفعيّة، ودافعوا عن أنفسهم بشراسة. صدرت هذه الرواية بلغات كثيرة، من بينها اللغة العربية (ترجمة خالد الجبيلي)، وتحوّلت إلى عمل مسرحي وأوبرا غنائيّة. تقتضي الإشارة، هنا، إلى أنّ المغنّي شارل أزنافور أنشد أغنية بعنوان "لقد سقطوا"، وجاء فيها: "لقد سقطوا من دون معرفة السبب حقّاً/ رجال ونساء وأطفال يريدون الحياة فحسب/ سقطوا بإيماءات ثقيلة، كرجال ثملين/ مقطّعي الأوصال/ مقتولين وعيونهم مفتوحة ومُرتعبة". قبل فترة وجيزة من رحيله، تحدّث أزنافور في لقاء صحافي أجريَ معه في باريس عن مسألة الانتماء، فاعتبر أنه- وإن كان يشعر بأنّه مواطن من هذا الكون- لا يزال متمسّكاً بجذور مكانه الأول الحاضرة في ذاته، وتُعَمِّق حضورها المأساةُ التي عاشها أهله أثناء المذابح.

يحضر هذا التاريخ الدامي أيضاً في عدد من الأفلام السينمائيّة، ومنها فيلم "أميركا أميركا" للمخرج السينمائي إيليا كازان. من جهته، وقف شارلي شابلن حتى اللحظة الأخيرة من حياته ضدّ الظلم الذي عاشه الشعب الأرمني. في عشرينيات القرن الماضي، أسَّس صندوقاً لدعم الأطفال الأرمن اليتامى، والتقى العديد من الفنانين والموسيقيين الأرمن.

هكذا يؤرِّخ الإبداع للواقع بطريقة مختلفة، ويشهد عليه لكنّ شهادته جمالية إنسانية تَعبر الزمان والمكان، لأنها تنظر إلى الإنسان بصفته إنساناً قبل أيّ اعتبار آخر، بعيداً من ممارسات وحوش السياسة ووحولهم ومستنقعاتهم.