جاريد كوهين

التعدّدية المصغّرة... أنسب مقاربة معاصرة؟

6 أيار 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

على عكس شعار "أميركا أولاً" الذي طرحه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، يؤكد الرئيس جو بايدن وأعضاء فريقه على دعمهم الصريح لمبدأ التعددية. خصّص فريق بايدن الأسابيع الأولى من العهد الرئاسي الجديد لتعديل أكثر الجوانب إثارة للجدل في مقاربة ترامب، فاتخذ قرارات مثل إعادة الانضمام إلى اتفاق باريس للمناخ، ووقف إجراءات الانسحاب الأميركي من منظمة الصحة العالمية، واستئناف التواصل مع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتجديد الالتزام المشروط بالاتفاق الإيراني النووي. كذلك، لا يفوّت بايدن وممثلوه أي فرصة للتأكيد على أهمية التحالفات والتعاون الدولي.


تُعتبر هذه الخطوات المذكورة آنفاً كلها إيجابية بشكل عام. من وجهة نظر واشنطن، يعني التعاون مع دول أخرى لتجاوز التحديات المشتركة اكتساب شرعية إضافية وتخفيض التكاليف المحتملة مقارنةً بتداعيات التحرك أحادي الجانب. لكن لا تكون جميع مظاهر التعددية متساوية. في عصر المنافسة المتجددة بين القوى العظمى، تصل كيانات مثل مجلس الأمن ومجموعة العشرين إلى طريق مسدود في ملفات كثيرة، حتى لو كان أعضاؤها يتقاسمون عدداً كبيراً من المصالح المشتركة. أدى تنامي النفوذ الصيني إلى إضعاف فعالية المنظمات الدولية الأساسية، مثل منظمة الصحة العالمية، ولا تحظى الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف، مثل الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، بدعم سياسي محلي.

يجب أن تهتم واشنطن في المقام الأول بقدرة الدول الصغيرة على قيادة الجهود متعددة الأطراف. تكون هذه الدول أكثر استعداداً لتجربة البرامج الجديدة وتسمح لها مكانتها بأداء دور الوساطة في المسائل الشائكة، حتى أنها تستطيع أحياناً أن تقود الجهود المشتركة مع الدول الأكثر قوة منها. يُسمّى هذا الخليط بين قيادة الدول الصغيرة ومشاركة الدول الكبرى "التعددية المصغرة"، ويُفترض أن تصبح هذه الظاهرة أداة أساسية في التحركات الأميركية الجماعية.

أثبتت نسخ عدة من "التعددية المصغرة" نجاحها في الماضي، لا سيما حين أدت الصراعات الراسخة إلى حصول مواجهة بين القوى العظمى. خلال التسعينات مثلاً، لعبت النروج دور الوساطة في مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، فأنتجت في نهاية المطاف اتفاقية أوسلو المدعومة من الولايات المتحدة. وفي العام 1999، قادت توغو عملية السلام التي ساهمت، بدعمٍ من واشنطن، في إنهاء الحرب الأهلية في سيراليون. وفي العام 2008، استضاف الأمير القطري، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الأطراف اللبنانية المتناحرة لإجراء محادثات أنتجت اتفاق الدوحة، بدعمٍ من فرنسا، والمملكة العربية السعودية، وإيران، والولايات المتحدة، فانتهت حينها أزمة سياسية دامت 18 شهراً في لبنان.

كذلك، نجحت الدول الصغيرة في جمع الأموال وموارد أخرى وانتزعت التزامات مهمة من نظرائها الأكبر حجماً. بدءاً من العام 2015، جمعت عملية العقبة بقيادة الأردن بين الدول الأكبر حجماً لتقاسم المعلومات وتنسيق جهود مكافحة الإرهاب. وبعد إطلاق النار الجماعي على مسجد في "كرايستشيرش" في العام 2019، تعاونت رئيسة حكومة نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن، مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لجمع الحكومات وشركات الإنترنت وإصدار "نداء كرايستشيرش"، وهو التزام بحذف المحتويات الإرهابية والمتطرفة العنيفة من شبكة الإنترنت. وفي آذار 2020، قادت النمسا جهوداً أخرى لتشكيل مجموعة "المحركون الأولون"، فنشأت بذلك منصة تستفيد منها دول مثل أستراليا، واليونان، وإسرائيل، وسنغافورة، لمناقشة طريقة التعامل مع وباء كورونا. وفي تشرين الثاني 2020، شاركت فنلندا في استضافة مؤتمر أفغانستان، وجمعت مبلغ 3.3 مليارات دولار لدعم التنمية في ذلك البلد المحاصر.

غالباً ما تكون هذه الجهود الجماعية التي تبذلها دول صغيرة وتشمل بلداناً أكبر حجماً أكثر مرونة من المقاربات القديمة ومتعددة الأطراف. استناداً إلى نقاط قوة الدول الأصغر حجماً (تاريخ الدول الاسكندنافية الطويل في لعب دور الوساطة في الصراعات مثلاً، أو خبرة الأردن في التعامل مع الجماعات المتطرفة)، يمكن تقسيم المهام بطريقة مثمرة والجمع بين الخبرات الواسعة وأنواع الموارد التي تملكها الدول الأكبر حجماً والأكثر تأثيراً. يستطيع قادة الدول الصغيرة أن يعطوا الجهود الجماعية طابعاً سياسياً عملياً لمساعدة القوى العظمى العالقة داخل منافسة محتدمة في ما بينها. في أفضل الأحوال، قد تنطلق هذه الجهود وهي تضع نصب عينيها أهدافاً واضحة ولها إطار زمني محدد، فتجمع الأموال لصالح قضية معينة، أو تتفق على المبادئ المرتبطة بمسألة محددة، أو تحلّ الأزمات بدل إعطاء تفويض واسع من دون تحديد مهلة زمنية واضحة.

دور واشنطن

بدأ عدد كبير من الجهود الآنف ذكرها بطريقة تلقائية وبفضل القيادات الحكيمة في الدول الأصغر حجماً، كونها تتمتع بخبرة فريدة من نوعها وتستطيع أن تجمع بين مختلف الأطراف. ونظراً إلى النجاحات التي حققتها هذه الدول، حان الوقت كي تضطلع واشنطن بدور استباقي وتُشجّع على إطلاق جهود مماثلة. يمكنها أن تدعو الدول الصغيرة مثلاً إلى استلام أدوار قيادية وتتعهد بتقديم دعمها لها. تعني هذه المقاربة أيضاً مقاومة النزعة إلى تنظيم حملات أحادية وحث الآخرين على قيادة جهود متعددة الأطراف على أن تشارك فيها الولايات المتحدة طبعاً.

يمكن إطلاق أجندة مبكرة ترتبط بالاقتصاد الرقمي. تشمل إستونيا مثلاً 1.3 مليون نسمة فقط وتقع روسيا العدائية على حدودها، لكنها تتفوق على اليابان وسنغافورة والولايات المتحدة في استطلاعات الحوكمة الإلكترونية العالمية. كذلك، تستعمل دول أكبر حجماً، مثل المكسيك وفنلندا واليابان، نظام X-Road الإستوني مفتوح المصدر لتحسين نسختها الخاصة من الحوكمة الرقمية. يستطيع أي منتدى تقوده إستونيا أن يساعد دولاً كثيرة على تحسين فاعليتها وتقديم الخدمات الحكومية والرعاية الصحية عبر أنظمة رقمية.

اتّضحت أهمية الأطر الدولية التي تسمح للدول الأصغر حجماً بأداء دور قيادي في المسائل الرقمية خلال السنة الماضية، بما في ذلك "اتفاقية شراكة الاقتصاد الرقمي" التي وقّعت عليها سنغافورة والصين ونيوزيلندا في حزيران 2020. تتمحور هذه الاتفاقية حول التجارة الرقمية الشاملة، وتبني الثقة المطلوبة بالبيانات المرتبطة بالخدمات المالية العابرة للحدود، وتُحدد معايير أخلاقية للذكاء الاصطناعي، فضلاً عن تحقيق أهداف أخرى. قد تثبت هذه الاتفاقية، في حال نجاحها، أن الدول الصغيرة قادرة على اتخاذ خطوات استباقية لزيادة مصداقية السوق عبر طرح معايير واضحة للسياسة الرقمية، والربط بين الاقتصادات الرقمية، وتكثيف الجهود المبذولة بالتعاون مع دول أكبر حجماً: بدأت سنغافورة منذ الآن تستعد لعقد اتفاق ثنائي مع واشنطن حول الاقتصاد الرقمي.

قد تشكّل التطورات الإقليمية فرصة مناسبة أخرى لتطبيق هذه المقاربة. يُفترض أن تكون "اتفاقيات أبراهام" التي بدأت على شكل سلسلة من اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل ودول عربية، بوساطة أميركية، كفيلة بإقناع الجميع بأهمية متابعة الجهود الأميركية الرامية إلى تعميق هذه المقاربة وتوسيعها. لكن تستطيع واشنطن أيضاً أن تُشجّع الدول الصغيرة الفردية (مثل البحرين أو الإمارات العربية المتحدة، أو حتى دول غير عربية مثل قبرص) على تصميم آلية تنسيق لتعميق الاتفاقيات المرتبطة بعناصر أساسية في المجالات الاقتصادية والأمنية مثلاً، على أن تحظى هذه الجهود بدعم واسع من خارج المنطقة. أثبتت كوستاريكا تفوّقها في مجال السياحة البيئية وحماية الموارد، وهما موضوعان أساسيان بالنسبة إلى الإدارة الأميركية الجديدة التي تهتم بالاستدامة البيئية. وبعد صراع امتد على عقود وانتهى في العام 2016، أصبحت كولومبيا رائدة في مجال نزع الأسلحة وتفكيك الجماعات المسلّحة وإعادة دمجها، ويمكن تطبيق هذا النموذج حين تنتهي الحروب في أماكن أخرى.

يحذر منتقـدو "التعددية المصغرة" من احتمال إضعاف الحوكمة العالميــــة والجهود متعــــددة الأطراف "عنــد طرح حلول خاصـة لمخاطر عالمية منهجية ومتوقعة"، كما قال أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أمام مجلس الأمن في أيلول 2020. لكن قد يكون تطوير أدوات إضافية، تحت قيادة مبتكرة، لمساعدة الدول على التعامل مع التحديات الدولية جهداً ضرورياً لاستكمال الهياكل الراهنة التي تحمل طابعاً متعدد الأطراف بدل أن تصبح تلك الأدوات سبباً لإضعافها.

فـــــن الـــــتـــــرابـــــط

حين وثّق المؤرخ الفرنسي ألكسيس دي توكفيل المجتمع المدني الأميركي في الماضي، أشاد في إحدى المرات بما سمّاه "فن الترابط"، وهو العامل الذي يمنح الحياة المدنية الأميركية حيويتها الاستثنائية. في هذا السياق، كتب دي توكفيل: "كلما بدأ عهد جديد، سنشاهد في فرنسا دور الحكومة وفي إنكلترا حاكماً عظيماً، لكن يمكننا أن نتأكد من نشوء شكلٍ من الترابط في الولايات المتحدة".

يبدو أن إدارة بايدن تتجه اليوم إلى تطبيق هذه الحقيقة العامة على الشؤون الدولية، فتبني الروابط بين الدول لمعالجة التحديات بطرقٍ تعجز الولايات المتحدة عن تحقيقها وحدها. يشمل فن الترابط العالمي عناصر متعددة، وهي تتراوح بين كيانات نشأت منذ عقود وتجمعات جديدة تهدف إلى معالجة مشاكل معروفة خلال أوقات محددة. لكنّ التركيز على جهود متخصصة ومتعددة الأطراف ومحدودة زمنياً، كتلك التي تقودها الدول الصغيرة، سيعطي على الأرجح نتائج إيجابية ولو بدرجات متفاوتة.

MISS 3