لورين أوتس

الغرب وصدمة حُكم "طالبان"

8 أيار 2021

المصدر: The Diplomat

02 : 01

خلال التسعينات، أصبحت أفغانستان واحدة من أكثر الدول انعزالاً في العالم. هرب منها ملايين الناس، وبقيت المعلومات المسرّبة من ذلك البلد محدودة نظراً إلى غياب الاتصالات الفعالة، وفرض ضوابط صارمة على المنظمات غير الحكومية المتبقية، وصعوبة عمل الصحافيين وخطورته. لكن في العام 1998، نجحت منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان" في إدخال فريق من الباحثين إلى البلد، ونشرت تقريراً موثقاً على نحو حذر ومبنياً على استطلاع شارك فيه أكثر من ألف أفغاني مقيم في أفغانستان وفي مخيمات اللاجئين الأفغان، فحصل العالم حينها على لمحة صغيرة عن حقيقة ما يجري داخل الحدود الأفغانية.

عكست أجوبة الأفغان العاديين صورة قاتمة عن طبيعة الحياة في بلدٍ يُحرَم فيه الناس من أبسط حقوقهم ويُركّز على تخفيض مكانة النساء والفتيات ووضعهنّ على هامش المجتمع. نتيجةً لذلك، أصبحت الحياة لا تُطاق في ظل اشتداد الضغوط والمصاعب هناك. خضع الأفغان لشبكة واسعة من القواعد التي فرضها نظام استبدادي بامتياز: إنه نظام "طالبان".

يكشف الاستطلاع الذي أجرته منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان" أن هذا الوضع جعل السكان يعانون من أزمات نفسية، فباتت إصابة الناس بمستويات حادة من الاكتئاب والقلق ظاهرة طبيعية، حتى أن عدداً مقلقاً من السكان اعترف بأنه فكّر بالانتحار. كذلك، أثبتت حالة أغلبية النساء في أفغانستان أن تدهور صحتهنّ الجسدية والنفسية يرتبط بسياسات حركة "طالبان" مباشرةً.

في الوقت نفسه، أثبت الاستطلاع بكل وضوح أن السكان يعارضون الإيديولوجيا التي يفرضها حكّامهم عليهم: اعترف أكثر من 90% من المشاركين في الاستطلاع، من رجال ونساء، بأنهم "يدعمون بقوة" حقوق المرأة الأفغانية، وقد أيدوا في معظمهم حق المرأة في الاستفادة بقدر الرجل من فرص التعليم والعمل، وحرية التعبير، وحماية حقوق المرأة عن طريق القانون، ومشاركتها في الحُكم. يُفترض أن تتمكن المرأة برأيهم من التنقل بكل حرية وتتواصل مع الناس حين ترغب في ذلك. اعتبر المشاركون أيضاً أن هذه الحقوق والحريات لا تنتهك قواعد الإسلام.

سرعان ما تحوّلت هذه القناعات إلى واقع ملموس في حياة الشعب الأفغاني، بعد سقوط "طالبان" في أواخر العام 2001. لكن بقيت أعباء تلك الصدمة قائمة في المجتمع خلال المرحلة اللاحقة. لم تترك "طالبان" أي إرث من التطور الاجتماعي أو الثقافي بعد سنوات حُكمها، بل خلّفت وراءها أزمات نفسية كبرى بسبب صرامة نظامها.

كذلك، لم تنجح "طالبان" في تحقيق أي شكل من التنمية الاقتصادية، بل إن عهدها أغرق البلد في حالة غير مسبوقة من الفقر: أصبحت أفغانستان من الدول القليلة التي سجلت تراجعاً في مؤشرات التنمية البشرية، منها وفيات الأولاد والأطفال الرضع، على عكس بقية دول العالم حيث تميل هذه المعايير إلى التحسن مع مرور الوقت، بوتيرة متسارعة حيناً أو بطيئة أحياناً، لكنها تتخذ عموماً منحىً تصاعدياً. كان يمكن تجنب الفقر المدقع بالكامل. ترسّخ هذا الفقر بسبب سياسات "طالبان"، لا سيما إخراج النساء من سوق العمل مع أن قطاعات كاملة، مثل الرعاية الصحية، كانت تتكل على مساهمة النساء ولو بدرجات متفاوتة. وأدى تراجع الإنتاجية الاقتصادية إلى ترسيخ انعدام الأمن الغذائي بدرجات قياسية. كذلك، تدمرت البنى التحتية التي تضمن حاجات أساسية مثل المياه الصالحة للشرب، ما أدى إلى انتشار أزمات صحية كان يسهل تجنبها.

على صعيد آخر، أدى إغلاق المدارس إلى تضخيم حجم التدهور الاقتصادي لأن المدارس أداة أساسية لتحسين مستوى المعيشة. يتوقف النمو الاقتصادي على وجود يد عاملة بارعة ومتنوعة، وتكثر الأدلة التي تثبت هذه الفكرة حول العالم: تكون الدول التي يتراجع فيها مستوى التعليم ومشاركة النساء في سوق العمل أكثر فقراً من غيرها، وقد أثبتت أفغانستان في عهد "طالبان" هذه الحقيقة في مناسبات كثيرة.

لكن رغم هذا السجل المريع في مجال الحُكم وحقوق الإنسان، تزامناً مع استمرار الأضرار الناجمة عن الوضع القائم منذ وقتٍ طويل، تسعى الجماعة المتطرفة نفسها إلى الاستيلاء على السلطة مجدداً. كانت القرارات الأميركية الأخيرة كفيلة بتهيئة الظروف لتسهيل عودة هذا الكيان الاستبدادي وغير المُنتخَب، مع أن فكره الإيديولوجي يتعارض مع أفكار الشعب الذي يريد أن يحكمه. تكشف وقائع الحياة في أفغانستان بين العامَين 1996 و2001 ما يمكن توقّعه من عودة "طالبان" إلى الحكم مجدداً. ادعى بعض المحللين أن "طالبان" تغيرت، لكن تثبت جميع الأدلة المتاحة أنها مجرّد أمنيات غير واقعية.





في منتصف العام 2020، وثّق تقرير صادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" حياة الناس في مناطق خاضعة لسيطرة "طالبان"، واستنتج أن تعليم الفتيات أصبح ممنوعاً أو محدوداً جداً، كأن يُسمَح للفتاة بأن تتعلم حتى سن البلوغ فقط. كذلك، يخضع المعلمون الذين يستطيعون متابعة العمل لضرائب كبيرة ويتعرضون للتهديد. في الوقت نفسه تغيب مظاهر حرية التعبير، ويُمنَع التلفزيون في عدد كبير من المقاطعات الخاضعة لسيطرة "طالبان"، وتُمنَع الهواتف الذكية في مناطق أخرى. كذلك، تنشط فرقة "منع الرذيلة وتشجيع الفضيلة" التابعة لحركة "طالبان" في المناطق التي تسيطر عليها الجماعة المتطرفة، فتراقب تطبيق المعايير الأخلاقية بطريقة وحشية، وتقيس طول لحية الرجال، وتجبر النساء على ارتداء النقاب، ولا تسمح لأحد بتفويت وقت الصلاة في المسجد.

في غضون ذلك، تتابع الحركة معاقبة كل من يخالف قواعدها: فرضت محاكم "طالبان" عقوبات وحشية مثل جلد الرجال والنساء عند ارتكاب جرائم أخلاقية. في آخر أسبوعين، تكشف صور جديدة تعرّض امرأة للجلد على يد "طالبان" في محكمة تتجاهل المعايير المتعارف عليها في ولاية "هرات"، ويظهر ثلاثة رجال في فيديو آخر وهم يتعرضون للعنف بعد اتهامهم بكسر صيامهم خلال شهر رمضان. كذلك، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في أفغانستان فيديو غير مؤكد حيث يتعرض فتى مراهق للضرب لأنه أكل خلال شهر رمضان، فراح الصبي يصرخ بأنه لا يملك شيئاً للأكل وكان جائعاً.

تثبت جميع الأدلة إذاً أن "طالبان" لا تزال جماعة متطرفة ولا يهمّها إلا فرض أفكارها المتشددة. لقد اتّضح عجز هذه الحركة وعدم اهتمامها بالعمل السياسي والحوكمة وحُكم القانون وإدارة الاقتصاد والتنمية الاجتماعية، وهي لم تثبت بعد أنها لم تعد تكره النساء أو تحمل الأحقاد بقدر ما كانت تفعل حين حكمت البلد سابقاً.

باختصار، لم تتغير حركة "طالبان" بأي شكل، وهي لم تطلق أي ادعاءات مماثلة أصلاً. لكن تبرز مفارقة مؤسفة في الوقت الراهن. يبدو أن الفريق الذي يراهن على تغيّر طالبان ويبدي استعداده لتقبّل عودتها إلى الحُكم في أفغانستان هو المعسكر الذي تكبّد خسائر بشرية ومادية كبرى في آخر عشرين سنة لإحراز التقدم المنشود على مستوى الديموقراطية وحقوق المرأة وتعليم الفتيات: إنه المعسكر الأميركي. لن تستطيع أي خطابات فصيحة أن تُعوّض عن السياسات الكامنة وراء تلك الاستثمارات المكلفة وتستبدلها بالسياسة الناشئة اليوم للتعبير عن الدعم الأميركي لحكومة انتقالية غير مُنتخَبة تشمل حركة "طالبان"، أو لتبرير ترك البلد في حالة من الفراغ الأمني، أو إطلاق مزاعم مفادها أن فرض حُكم شبه ديني (أي دعم مطالب "طالبان" بإنشاء مجلس إسلامي باعتباره السلطة العليا في الحكومة) يتماشى مع مصالح الأفغان وأن حياة النساء والفتيات لن تتغير في هذه الظروف.

لا مفر من أن تتغير حياتهنّ! على كل من يشكك بتغيّر الوضع أن يراجع تداعيات حُكم "طالبان" الذي انتهى منذ عشرين سنة ويُقيّم تأثير نظامها على المناطق التي تسيطر عليها اليوم.

MISS 3