عيسى مخلوف

وقفة من باريس

عالَم مُتَغَيِّر

8 أيار 2021

02 : 00

نعيش في عالم مُتَغيِّر يتغيَّر معه المعنى الثقافيّ، في زمن التقدّم العلمي والتّكنولوجيّات الحديثة ومنطق التسليع، وهذا ما ينعكس بالضرورة على المجالات الإبداعيّــة، الأدبيّة والفنّيّة.

هل يمكن إنتاج فكر وفنّ وأدب من دون الالتفات إلى الأثر الذي تركته إنجازات الثّورة العلميّة؟ لا نتوقّف هنا عند كيفيّة استعمال هذه الإنجازات، وتوظيفها في الحرب أو في السّلم، بل نشير إلى حضورها في الإبداع، وإلى قدرتها على الكشف وعلى منافسة الحدس وتجسيد بعض الرّؤى. منذ القرن التّاسع عشر، أدرك عدد من الشّعراء والكتّاب والفنّانين أبعاد التحدّي التقنيّ ومعنى هذا التحوُّل، ولا نزال نسمع صدى هتاف الشاعر الأميركي والت ويتمان: "أنا شاعر القاطرة". وهذا ما أدركه أيضاً، في وقت لاحق، بعض شعراء المهجر، وفي طليعتهم جبران خليل جبران الذي تنبّه إلى أثر التكنولوجيا، وأبدى تخوُّفاً من تحكُّم الآلة في الإنسان، لكنّه لم ينتبه إلى التحوّلات الإبداعيّة المواكبة لها، خصوصاً في مجالات الفنون التشكيليّة والهندسة المعماريّة التي كانت مدينة نيويورك مسرحاً لها في عشرينــات القرن الماضي.

لقد انتشرت الثورة التقنيّة والتكنولوجيّة في الثقافــة وأبدعت وسائط تعبيرها الفنّيّ معها: ولادة الصورة والسينما والمذياع والتلفزيون والإنترنت. الصورة الفوتوغرافيّة والسينما في مقدّمة الفنون الّتي تدين بوجودها للتكنولوجيّــات الجديدة. مع هذه الوسائط، بدأ الانتقال التّدرُّجيّ من التّعبير عبر النصّ، وهو، تاريخياً، النصّ الشعريّ، إلى مجال الصّورة. مع الصّورة، خصوصاً تلك التي جسّدتها الشاشة الصغيرة، انطلق ما بات يُعرَف بِـ"ثقافة الجماهير".

لا يمكن للكاتب اليوم أن يعيش في معزل عمّا يحدث من تغيُّر في جميع المجالات، لا سيّما المجال العلمي والمجال التكنولوجي الذي ينعكس على مرافق الحياة اليوميّة، من المواصلات ووسائل الاتّصال الحديثة إلى الصناعة والطبّ والفلك وحتّى طرائق التعليم والتفكير والإبداع. هذا التطوّر يطرح علامات استفهام حول مسار العالم وحياة الأفراد، وحول عمليّة الكتابة نفسها. ولقد سبق أن طُرحت هذه الأسئلة بين نهاية القرن التّاسع عشر والنّصف الأوّل من القرن العشرين مع الكثير من الأعمال الشعريّة والروائيّة الواقعيّة الّتي عبّرت عن خشيتها من التقدّم التكنولوجيّ وانعكاساته على البيئة والطبيعة، أي على الإنسان نفسه.

في مجال الفنّ السّابع الصاعد آنذاك، يكفي أن نذكر هنا فيلمين اثنين: "ميتروبوليس" الذي أنجزه فريتز لانغ في العام 1927، وفيلم "الأزمنة الحديثة" (1936) لشارلي شابلن. الفيلمان يتعرّضان إلى موضوع الاستغلال وحضور الآلة والتعبير عن الخوف من أن يصبح الإنسان نفسه آلة. كان الإبداع الأدبي والفنّي ينظر إلى الآلة في إطار مقارنتها بالإنسان وبصفتها شيئاً بلا روح، بينما يتحدّث العلم اليوم عن تطوير هذه الآلة وجعلها تقترب من الإنسان عبر ما يسمّى الذّكاء الاصطناعي. وفي كلتا الحالتين، تحوّلت الآلة موضوعاً أدبيّاً وفكريّاً، وترك حضورها الطّاغي أثراً على الأنواع الأدبيّة وعلى الموضوعات التي تعالجها. إضافةً إلى ذلك، أصبح الكمبيوتر وسيلة أساسيّة يلجأ إليها الكاتب للكتابة والقراءة والبحث والحفظ، كما أصبح الكمبيوتر أو الآيباد أو التابلت أو الموبايل مصغَّراً للكون في قبضة اليد. هذه الأدوات غيّرت أيضاً طبيعة علاقة الكاتب بالمكان والزّمان. هكذا الأمر مع الفنّانين التشكيليّين الذين يفيدون من التكنولوجيا ويدمجون الرّقميّ بالجماليّ، وكذلك مع العاملين في المسرح والأوبرا. لقد دخلت هذه التقنيّات الجديدة المجالات الثقافيّة كلّها، من إنشاء المكتبات وزيارة المتاحف في صورة افتراضيّـــة إلى حفظ التّـــراث الثّقــــافيّ بالطريقة الرقميّة.

إنّ ابتكار آلة التّصوير الفوتوغرافيّ في القرن التّاسع عشر، ترك أثره على الفنّانين التّشكيليّين في نظرتهم إلى الواقع وإلى اللّوحة نفسها. كان ابتكار هذه الآلة وليد الثّورة الصّناعيّة الّتي سمحت بتطوير التّقنيّات، واعتمدت على "الأوبتيك" (البصريّات) والكيمياء والكهرباء والإلكترون والمعلوماتيّة. السّينما خضعت للتّطوّر التّقنيّ نفسه واجتازت شوطًا كبيراً منذ ابتكارها مع الأخوين لوميير في فرنسا، وصولاً إلى آخر إرهاصاتها وتحقيق الصّورة الثّلاثيّة الأبعاد مع مخرجين سينمائيّين، منهم جايمس كامرون في فيلمه "أفاتار". وكان إنغمار برغمان استعمل الكاميرا الرّقميّة لتصوير فيلم "ساراباند" الذي هو آخر أفلامه. تطالعنا هذه الوسائط كذلك على خشبة المسرح. من الفنون التشكيليّة والمشهديّة إلى صناعة الكتاب، يشهد هذا القطاع تحوّلاً كبيراً مع وصول الكتاب الرقميّ إلى المكتبات، خصوصاً المكتبات الرقميّة الضخمة.

من جانب آخر، أدّى تحالُف التّكنولوجيا والاقتصاد إلى تغيير العلاقة بالثّقافة. فالدّورة الاقتصاديّة الآن تلقي بظلالها على التّربية والتّعليم، ومن خلالهما على التوجّهات الجديدة التي تعمل على تهميش الجماليّات والمعارف الإنسانيّة. إنّها المرّة الأولى التي يجتاح فيها المال، بهذه الطريقة الحاسمة، الثقافةَ ويُحكم قبضته عليها ويُخضعها لشروطه ومعاييره.


MISS 3