ذكرى الحرب العالمية الثانية

هل الصراع المسلّح ممكن في أوروبا اليوم؟

15 : 50

تشهد أوروبا عموماً حالة سلام منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد كانت الصدمة المترتبة عن ذلك الصراع قوية أكثر من اللزوم. لكن في ظل تلاشي ذكريات أعمال العنف وتنامي النزعات القومية راهناً، لم يعد استمرار السلام مضموناً بأي شكل..."الحرب غيّرت كل شيء"! يختصر هذا التصريح الذي أدلى به المؤرخ البريطاني الراحل توني جودت وضع أوروبا المعاصرة. كانت الحرب كفيلة بإطالة مدة السلام، وكان يجب أن يسوء الوضع بشدة كي يعود ويتحسن مجدداً. في آخر 75 سنة، يسود السلام في القارة الأوروبية، باستثناء حالات معدودة. تواجه هذه النسخة من أوروبا أزمة حقيقية اليوم، إذ لم تعد تشهد تلاشي التفكير القومي بوتيرة بطيئة أو تُحقق ازدهاراً مشتركاً تدريجياً، ولا تلتزم جميع بلدانها على ما يبدو بالديموقراطية الأبدية. من الواضح أن مسار التاريخ الأوروبي تغيّر وبدأ يبتعد عن مبدأ التلاقي ويؤيد الانفصال.

منذ 80 عاماً، اندلعت الحرب التي غيرت كل شيء، في 1 أيلول 1939، بعدما غزت ألمانيا بقيادة أدولف هتلر بولندا المجاورة. وبعد ست سنوات تقريباً، قُتِل أكثر من 60 مليون شخص حول العالم نتيجة أعمال العنف، وتدمرت أجزاء هائلة من القارة الأوروبية، وأُجبِر ملايين الأوروبيين على مغادرة منازلهم، وغرق ملايين آخرون في مستنقع الفقر، وسادت حالة عامة من الصدمة.

تغيّر مسار التاريخ في تلك اللحظة بالذات وصحّح اتجاهه حينها، واضطرت أوروبا لتقبّل انتهاء الخصومات القديمة خلال الحرب.

تعلّق أبرز سبب بقوة الصدمة السائدة. لم يسبق أن اندلعت حرب شاملة بهذا الحجم. خلال مؤتمر فيينا بين العامَين 1814 و1815، سعت القوى العظمى إلى تضييق نطاق حروبها، فحصرتها في مناطق محددة واكتفت بقتل الجنود. وخلال الصراعات اللاحقة، بقي عدد الضحايا المدنيين منخفضاً نسبياً ونجت المدن في معظمها. هذا ما حصل مثلاً خلال الحروب الثلاث التي أدت إلى توحيد ألمانيا للمرة الأولى، ضد الدنمارك وضد الإمبراطورية النمساوية المجرية، وبدرجة كبيرة ضد فرنسا. في تلك المرحلة، حاول مستشار الرايخ أوتو فون بسمارك إقامة توازن بين القوى العظمى، لكن تغيّر مسار التاريخ بعد الإطاحة به في العام 1890. فبدأت البلدان تزيد تركيزها على التنافس وأصبح اندلاع حرب كبرى مسألة وقت.

صدمة قوية

وقعت تلك الحرب في العام 1914 وأسفرت عن مقتل 15 مليون شخص. لكن بقي القتال محصوراً على الجبهات عموماً، حيث ساد دمار شامل، لا سيما في شرق فرنسا وبلجيكا. واجه المدنيون من جهتهم العوز والجوع، لكن بقيت معظم المدن سليمة. وبعد انتهاء الحرب في 11 تشرين الثاني 1918، بدت ألمانيا في معظمها شبيهة بما كانت عليه قبل الحرب.

لم تكن هذه الصدمة قوية بما يكفي. بعد 21 سنة فقط على انتهاء الحرب العالمية الأولى، اندلعت الحرب العالمية الثانية التي خَلَت من أي ضوابط. ثم انتهت حين ألقت الولايات المتحدة قنابل ذرية على مدينتَي هيروشيما وناغاساكي في اليابان، في 6 و9 آب 1945. ما كان يمكن أن تكون الصدمة أقوى من ذلك!

بعد الحرب، استخلص السياسيون في أوروبا الغربية استنتاجات صائبة: يجب أن تنتهي الخصومات القومية التي أطلقت الحربَين العالميتَين! اعتبرت الدول المجاورة لألمانيا أن البلد الذي اخترع النازية يحتاج إلى الترويض والاندماج لأن القومية هناك كانت مُعدِية بكل وضوح. تماشى هذا الرأي مع المزاج السائد في ألمانيا الغربية حيث انتشر خليط من مشاعر الاستسلام والخوف والعار بعد التسبب بالحرب وارتكاب محرقة اليهود.

نتيجةً لذلك، كانت أوروبا الغربية لتتمكن من النمو والازدهار بطريقة مشتركة وتدريجية. لضمان السلام، بقيت أوروبا الشرقية تابعة للاتحاد السوفياتي وفرض السوفيات نظاماً وحشياً مبنياً على الدكتاتورية الاشتراكية. ثم بدأت الحرب الباردة، وكانت عبارة عن منافسة منهجية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، إلى جانب حلفائهما. لكن كانت صدمة الحرب العالمية الثانية والخوف من التصعيد النووي كفيلَين بحماية السلام في القارة الأوروبية، وقد استمر ذلك السلام حتى يومنا هذا.

مع ذلك، أُرسِل الجنود الأوروبيون إلى ساحات المعارك، وقاتلت فرنسا للحفاظ على مستعمراتها في الجزائر وفيتنام، وحاربت بريطانيا الأرجنتين على جزر "فوكلاند" في جنوب المحيط الأطلسي، وانضمّ البلدان معاً إلى الولايات المتحدة للمشاركة في عدد من الحروب، على غرار الإيطاليين والإسبان والألمان، لا سيما في أفغانستان.

لا أفكار بديلة عن السلام

لم تكن الصدمة كافية لإلغاء الحروب بالكامل، لكنها ساهمت في حصر نطاق العنف في الصراعات الإقليمية. كذلك، أدى مؤيدو السلام في المجتمعات دوراً مؤثراً عبر إصرارهم على عودة الجنود إلى ديارهم، لكن كان هذا الأثر بارزاً في ألمانيا أكثر من الولايات المتحدة.

قبل الحرب العالمية الثانية، كانت الشعوب تميل إلى الابتهاج باندلاع الحرب. وحتى أواخر التسعينات، كان الرجال والنساء الناشطون في معترك السياسة قد عاصروا الحرب العالمية الثانية بأنفسهم. لذا ساد موقف رافض لتكرار الماضي الأليم بين مختلف المستشارين الألمان وصولاً إلى هلموت كول، والرؤساء الفرنسيين وصولاً إلى جاك شيراك. لكن تزامنت نهاية ولايتهم مع تراجع زخم المشروع الأوروبي.

تلاشى تأثير شهود العيان على مر السنين وخسر قوته. خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بدا السلام الأوروبي الأبدي واقعاً راسخاً لدرجة أن فكرة السلام وحدها لم تعد كافية لتبرير الميل إلى تعميق التكامل الأوروبي. لذا بدأ البحث عن أفكار جديدة، لكن لم يجد أحد مفاهيم مؤثرة بالقدر نفسه.

ونظراً إلى تلاشي صدمة الحرب، باتت الفرصة سانحة لتنامي الالتزام بمفهوم الدولة القومية. يصف المؤرخ ديتر لانغويش في كتابه الجديد The Violent Teacher (المعلّم العنيف) الأسباب الأولية وراء الحروب المعاصرة في أوروبا. يتعلق أحدها بنشوء دول قومية في القرن التاسع عشر، كما حصل في اليونان وإيطاليا وألمانيا. يكتب لانغويش: "لا وجود لأي أوطان بلا حروب، ولا وجود لأي دول قومية بلا حروب".

لكن رغم صدمة الحرب العالمية الثانية، بقيت المسألة القومية قادرة على شن الحرب في أوروبا، تماماً مثل تفكك بلد يوغوسلافيا متعدد الانتماءات العرقية غداة الحرب الباردة. في بلدان أخرى، أوضحت الحرب العالمية الثانية حقيقة الوضع القائم لأن "التطهير العرقي" كان جزءاً من عواقبها. صحيح أن تلك الحرب سببت المعاناة لملايين الناس، لكنها ساهمت أيضاً في إطالة مدة السلام في أوروبا.

لهذا السبب، يصعب أن يتقبّل الجميع هذه الملاحظات. قد تنعكس أهوال الحرب إيجاباً على الأجيال اللاحقة. لا يعني ذلك بالضرورة أنّ الثمن الباهظ كان مبرراً، لكن يستحيل أن نتكهن مسار التاريخ من دون الحرب العالمية الثانية.

تعبير القومية

في أوروبا اليوم، لا يؤدي مفهوم بناء الأوطان أي دور مؤثر خارج إطار أمنيات الانفصاليين، كما في "كتالونيا" أو "فلاندرز". تنقسم أوكرانيا إلى جزء شرقي وآخر غربي، وقد استغلت روسيا هذا الوضع. نتيجةً لذلك، نشأ خليط من الحرب الشاملة والأهلية، لكن بقي الصراع محلياً. كذلك، لم تكن سياسة الانتقام مؤثرة جداً حتى الآن في أوروبا بعد حقبة الحرب، إذ تُعتبر الحدود بوضعها الراهن مقبولة عموماً.

لكن عادت الفكرة القومية التي كانت مسؤولة عن حروب كثيرة إلى الواجهة مجدداً. خلال أزمة اليورو، تضرر التضامن الأوروبي بدرجة كبيرة وأثّرت أزمة اللاجئين على الوضع أيضاً. لا يتم التشكيك بطريقة ترسيم الحدود بل بمدى انفتاحها. حتى أن البريطانيين يريدون استرجاع استقلاليتهم مجدداً: خطة "بريكست" تعبير صريح عن القومية!

يعتبر لانغويش الثورات دافعاً إضافياً للحرب. غداة ثورة العام 1789، شنّت الحكومة الثورية الفرنسية حرباً أهلية داخلياً، وحرباً أخرى مع الدول المجاورة خارجياً. ولم يعمّ السلام في القارة إلا بعد هزيمة نابوليون في "واترلو" في العام 1815 ومؤتمر فيينا في السنة نفسها. أدت الثورة الروسية في العام 1917 بدورها إلى حرب أهلية طويلة واستلزمت تدخّل بلدان أخرى.

تحديات صعبة

ما هو الوضع الراهن إذاً؟ لن نواجه أي ثورة قريبة على الأرجح. لكن تتعرض الديموقراطية الليبرالية للضغوط، علماً أنها بدت في السابق عنصراً ثابتاً من الإجماع الأوروبي. حتى أنها لم تعد موجودة في المجر وبدأت تتلاشى في بولندا. وفي إيطاليا، أصبحت الديموقراطية الليبرالية مُهدّدة وتطرح الشعبوية اليمينية في بلدان كثيرة أخرى تحدياً صعباً على النظام القائم.

داخل الاتحاد الأوروبي، تبرز مؤشرات أولية على نشوء خصومة منهجية: الديموقراطية الليبرالية في وجه الاستبداد. في الماضي، مهّدت الخصومات المنهجية أيضاً لاندلاع الحروب: النظام الملكي ضد الديموقراطية، والفاشية ضد الديموقراطية، والفاشية ضد الاشتراكية. خلال الحرب الباردة، وجدت الاشتراكية نفسها في مواجهة ضد الرأسمالية الديموقراطية، وتقاتل النظامان عبر حروب بالوكالة في الدول النامية.

حتى الآن، تضمن القاعدة العامة ألا تخوض الأنظمة الديموقراطية الحروب ضد بعضها البعض. يسهم هذا الوضع في حماية السلام الأوروبي أيضاً. لكن وفق سيناريو قاتم محتمل في المستقبل، قد يتحالف بلد استبدادي في أوروبا مع الصين باعتبارها دولة حامية. ستكون هذه الخطوة كفيلة بإنهاء القواعد السائدة.

يبدو هذا الخيار مستبعداً. مع ذلك، يزيد احتمال أن تندلع الحرب نتيجة أربعة عوامل قائمة: تلاشي صدمة الحرب العالمية الثانية، تجدد التفكير القومي، تنامي التهديدات في وجه الديموقراطية الليبرالية واحتمال نشوء خصومات منهجية في أوروبا. من الواضح أن الوضع يسير في اتجاه خاطئ. مجدداً، من واجب أوروبا أن تكبح هذا المسار، وسيكون تذكّر أهوال الماضي أول خطوة على الطريق الصحيح!


MISS 3