الكائنـات الفضائية

هل نحن وحدنا فعلاً؟

10 : 26

إليكم أهم سؤال في العالم: هل نعيش وحدنا في هذا الكون؟ تجادل الفلاسفة حول هذا السؤال طوال آلاف السنين. وحين أعلن عالِم الفلك الإيطالي والراهب الدومينيكاني جيوردانو برونو أن الكون يشمل "عدداً لامتناهياً من العوالم الشبيهة بعالمنا" في القرن السادس عشر، خالف بذلك العقيدة الدينية مباشرةً. ثم أُحرِق على وتد خلال عهد محاكم التفتيش لأنه تجرأ على التشكيك بمكانة الأرض الاستثنائية.

لا يزال هذا الجدل مستمراً، ولو بدرجة محصورة. لكن للمرة الأولى في تاريخ البشر، بدأنا نصل إلى المستوى المطلوب من التطور التكنولوجي لإيجاد جواب حقيقي. تسمح لنا أجهزة التلسكوب الفاعلة بدراسة الكواكب في الأنظمة الشمسية الأخرى، ما يعطينا لمحة عن أجوائها ونوع الحياة القائمة على سطحها. وبفضل تحسّن طرق تحليل كوكبنا، يمكننا أن نعيد تعريف شكل الحياة من بعيد ونُميّز المؤشرات المرتبطة بازدهار حضارة الكائنات الفضائية استناداً إلى دلائل جيولوجية بسيطة في عالمٍ يفتقر إلى مظاهر الحياة. بعدما أصبحت هذه الأدوات في متناولنا، يمكننا أن نتوصل إلى الأجوبة المنشودة أخيراً.

يدعو هذا الوضع إلى التفاؤل، لكن لا بد من توخي الحذر أيضاً. إذا كانت ملايين الحضارات المرتبطة بالكائنات الفضائية موجودة في الكون فعلاً، لماذا لم نرصد أي مؤشرات على وجودها حتى الآن؟ يفترض البعض أن تلك الكائنات تبتعد عمداً عن الأرض، فتُعاملها كنوعٍ من مواقع التراث الكونية التي تستحق الحماية. أو لا وجود لأي كائنات فضائية هناك بكل بساطة! يتمسك خبراء علم الأحياء الفلكية طبعاً بفكرة وجود كائنات فضائية، لكنهم لم يتواصلوا معها بعد.

إذا كان علماء الفلك في عوالم الكائنات الفضائية يراقبون كوكب الأرض انطلاقاً من نظام نجمي بعيد، ما الذي يمكن أن يلفت انتباههم؟ مقارنةً بالكواكب الصخرية المجاورة لنا، أي المريخ والزهرة وعطارد، لا شك في أن خليط الأوكسجين والميثان المميز في غلاف الأرض الجوي سيثير اهتمامهم. يشكّل الأوكسجين حتى 21% من الغلاف الجوي راهناً، ويشتق بالكامل من عناصر الحياة التي تدخل إلى الغلاف عبر جراثيم ضوئية ونباتات تُحوّل أشعة الشمس إلى طاقة. لا نعرف بعد متى تطوّر التركيب الضوئي الأوكسيجيني، لكن تبرز مؤشرات واضحة الى امتلاء غلافنا الجوي بالأوكسجين منذ 2.33 مليار سنة. حتى أن الميكروبات التي تنتج الميثان موجودة منذ فترة أطول.

رغم المصادر البيولوجية لهذين الغازَين، لا يُعتبر أي نوع وحده مؤشراً مؤكداً الى الحياة. تنتج البراكين والفتحات الحرارية المائية الميثان مثلاً، مع أن الميثان العضوي يشمل كمية كبيرة من نظائر الكربون-12 نسبةً إلى كمية الكربون-13. ويمكن أن يتشكّل الأوكسجين من جهته حين تقسم الأشعة المشتقة من نجم ناشط الجزيئات المائية إلى هيدروجين وأوكسجين، فتتراجع بذلك كمية الهيدروجين المُسرّبة من غلاف الكوكب الجوي. لكن يعكس اختلاط الميثان مع الأوكسجين قصة كوكبٍ ينبض بالحياة!

خلال الستينات، أدرك علماء الفلك أن وجود كل غاز وحده يدمّر الآخر. من دون ضخ كميات كبيرة من الأوكسجين والميثان معاً بوتيرة متواصلة في الغلاف الجوي، يتفاعل الغازان سريعاً ويقضيان على بعضهما. يمكن أن نتوقع إذاً وجود الأوكسجين أو الميثان في الكوكب الذي يفتقر إلى مظاهر الحياة، لكن لا تطرح المعطيات الجيولوجية طريقة للحفاظ على النوعَين معاً.

بعبارة أخرى، سيكون رصد كميات كافية من الأوكسجين والميثان على كوكب بعيد جزءاً وافياً من مؤشرات الحياة. كذلك، تنتج الحياة على كوكب الأرض آلاف الغازات الجزيئية الأخرى التي تبدو فريدة من نوعها. لذا اعتُبِرت غازات كلوريد الميثيل وثنائي ميثيل الكبريتيد وأكسيد النيتروز أهدافاً واعدة لرصد بصمات حيوية.

لكن ماذا لو لم يتوصل بحثنا عن تلك الغازات كلها إلى أي نتيجة؟ هل يعني ذلك أن الكوكب المستهدف مجرّد كتلة صخرية قاحلة؟ ليس بالضرورة! قد تكون مظاهر الحياة في العالم البعيد مختلفة تماماً عن الحياة على الأرض. ربما تختبئ تحت السطح، داخل صخرة صلبة أو في أعماق بحار خفّية، حيث تكون غير مرئية بأي شكل. تبرز احتمالات متطرفة أخرى أيضاً. ربما ترتكز الحياة هناك على السيليكون مثلاً بدل الكربون، أو تتكل على عمليات استقلاب غير معروفة تستعمل سائلاً مختلفاً عن الماء. في هذه الأشكال من الحياة الغريبة، قد يسمح علم الأحياء التركيبي والبحث عن كيمياء حيوية بديلة بفهم المواد الكيماوية الاستثنائية التي يجب أن نبحث عنها.

تحاول سارة سيغر من "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" معالجة هذه المشكلة من خلال استكشاف جميع الجزيئات التي يشكّل وجودها جزءاً من مظاهر الحياة. تشتق واحدة من أفضل الأفكار في هذا المجال من الباحثة كلارا سوسا سيلفا التي تعمل في المعهد نفسه وتدعو إلى البحث عن الفوسفين كمؤشر الى الحياة.

بات الوقت مناسباً لإجراء الأبحاث، نظراً إلى عدد البعثات التي أصبحت قيد التطوير لتنفيذ هذه المهمة، على رأسها مشروع "تلسكوب جيمس ويب الفضائي" في وكالة "ناسا"، ومن المقرر إطلاقه في العام 2021. سيكون هذا المشروع أول أمل لنا لرصد الجزيئات في الغلاف الجوي العائد إلى كوكب خارجي صالح للحياة. ثم ستتابع بعثة "إيريال" من "وكالة الفضاء الأوروبية" هذه الجهود، ومن المنتظر أن تنطلق في العام 2028.



ترتكز تقنية واعدة أخرى على استعمال أجهزة تلسكوب أرضية كبيرة لتنفيذ العملية نفسها، منها "التلسكوب الضخم" الذي يبنيه راهناً "المرصد الأوروبي الجنوبي" في تشيلي، ومن المتوقع أن يبدأ العمل به في العام 2025. يصعب أن نراقب الأغلفة الجوية للكواكب انطلاقاً من سطح الأرض نظراً إلى ضرورة نزع غلاف الأرض الجوي من نطاق الإشارات. يستطيع الجيل المقبل من المراصد الأرضية تنفيذ هذه العملية عبر إبطال آثاره في الضوء الذي يدخل إلى التسلكوب. حتى أن هذه التقنية الدقيقة قد تسمح لنا بالتمييز بين النظائر في عوالم أخرى، علماً أنها نسخ مختلفة من الذرات التي لا تتغير إلا عند وجود نيوترون واحد في نواتها. لم يكن أحد ليحلم بحصول ذلك في أي وقت قريب.

رغم الحماسة المحيطة بالكواكب النائية، قد ينجح العلماء في رصد أول مظاهر الحياة خارج الأرض على مسافة أقرب مما توقعوا. من المعروف أن ظروف أماكن أخرى من نظامنا الشمسي تجعلها صالحة للحياة، منها وجود محيط مائي سائل خفي تحت طبقة جليدية سميكة على قمر "أوروبا" التابع لكوكب المشتري، أو المياه الجوفية على المريخ. على صعيد آخر، افترض البعض وجود حياة على قمر "تيتان" التابع لكوكب زحل، حيث تنتشر بحيرات من الميثان السائل.

بغض النظر عمّا سنكتشفه في تلك العوالم المجاورة، يثق علماء الفلك بوجود مظاهر حياة في أماكن أخرى من الكون. لكنّ هذه الثقة ليست كافية. خلال السنوات القليلة المقبلة، ستصبح الأبحاث أكثر دقة وعمقاً وقدرة على الاستكشاف، ومن المتوقع أن تُغيّر الأجوبة التي نكتشفها طريقة فهمنا للكون ومكانتنا فيه. في هذا السياق، قال كاتب الخيال العلمي آرثر كلارك: "نحن أمام احتمالَين: إما أن نكون وحدنا في هذا الكون أو لا نكون كذلك. الخياران مرعبان بالدرجة نفسها!"

من المنتظر أن يشهد العقدان المقبلان ثورة في علوم الكواكب الخارجية. سبق واكتشفنا أصلاً عشرات العوالم التي يمكن اعتبارها صالحة للحياة، وسيتمكن التقدم التكنولوجي المقبل من رصد بصمات حيوية محتملة في أغلفتها الجوية. أما اليوم، فيكفي أن نراقب وننتظر.

في العام 1950، كان عالِم الفيزياء إنريكو فيرمي يتناول الغداء مع زملائه حين طرح سؤالاً عميقاً: أين الجميع؟ لم يكن يشير إلى الفراغ في كافيتريا الجامعة، بل تساءل عن السبب الذي يفسّر عجز الرادارات عن رصد الكائنات الفضائية إذا كانت حساباتنا توحي بأن الكون مليء بها. على مر العقود اللاحقة، طُرِحت فرضيات مبتكرة لحل معضلة فيرمي:

الكائنات الفضائية هنا أصلاً: لا تزال هذه الفكرة شائعة على نحو مفاجئ، وهي تفترض وجود مؤامرة دولية لطمس الأدلة التي تثبت حصول تواصل مع الكائنات الفضائية.

لا تريد إزعاجنا: ربما تتمسك الكائنات الفضائية بـ"مبدأ أساسي"، كما يفعل مستكشفو الفضاء الخياليون في مسلسلات وأفلام Star Trek، بمعنى أنها لا تتدخل في تطور ثقافات أقل تقدماً منها في عوالم أخرى. أو ربما تعتبرنا تلك الكائنات نوعاً من الحدائق المحلية أو حدائق الحيوانات وتراقب تحركاتنا لكنها تخفي وجودها. لن تعيش لمدة كافية للتواصل مع البشر: وفق هذه الفرضية المُحبِطة، لا تصمد أي حضارة متقدمة لفترة طويلة بما يكفي كي تبقى موجودة تزامناً مع تطور المساحات المجاورة لها. تُسمّى هذه الفكرة "المصفاة الكبرى". ربما مررنا من دون علمنـــــــا بتلك "المصفـاة" وخرجنا سالمين، أو ربما يلوح هذا الاحتمال في الأفق. في الحالتين، قد تصبح نهايتنا وشيكة بسبب تهديدات أخرى، مثل الحرب النووية والتغير المناخي.


MISS 3