جاد حداد

جراثيم الفم... ما تأثيرها على التهاب المفاصل؟

29 أيار 2021

02 : 00

يتابع العلماء البحث عن طرق جديدة لتشخيص التهاب المفاصل الروماتويدي، لا سيما في مراحله الأولى، لأن فرص التحسن تزداد عند تشخيص الحالة ومعالجتها في مرحلة مبكرة، ما يعني الحد من أضرار المفاصل وضعف وظائفها.

لكن لا يعرف الباحثون بعد أسباب نشوء التهاب المفاصل الروماتويدي، مع أنها تتأثر على ما يبدو بخليط من العوامل الوراثية والبيئية.

في السنوات الأخيرة، بدأ الباحثون يستكشفون الرابط بين التهاب المفاصل الروماتويدي المبكر والفئات المعرّضة لهذا الالتهاب والتغيرات الحاصلة في الفم والبيئة الميكروبية المعوية أو مستعمرات الميكروبات عموماً.

يبدو أن هذه الفئات من الناس تسجل مستويات غير طبيعية من جراثيم محددة في المخاط الذي يحد الفم والأمعاء. كذلك، يبدو أنها أكثر عرضة من غيرها لأمراض دواعم السن أو أمراض اللثة. حتى أن بعض الأبحاث يذكر أن التهاب المفاصل الروماتويدي قد يبدأ في تجويف الفم.

لهذا السبب، بدأ فريق من الباحثين في "المركز الأكاديمي لطب الأسنان" في أمستردام يحلل الجماعات الميكروبية وأمراض دواعم السن لدى أشخاص مصابين بالتهاب المفاصل الروماتويدي المبكر أو معرضين لهذا الالتهاب ومجموعة مرجعية غير مصابة بأي مرض مماثل. نُشرت نتائج الدراسة في مجلة "التهاب المفاصل وأمراض الروماتيزم".

ميكروبات الفم والتهاب المفاصل

يفترض الباحثون منذ وقت طويل أن أمراض المناعة الذاتية، مثل التهاب المفاصل الروماتويدي، تنجم عن كائنات دقيقة. ويعرف العلماء منذ فترة بوجود روابط بين أمراض دواعم السن وتغيرات الفم والبيئة الميكروبية المعوية والتهاب المفاصل الروماتويدي. تكشف دراسات عدة على ما يبدو أن ميكروبات الفم، لا سيما الجراثيم اللاهوائية التي لا تحتاج إلى الأوكسجين، قد تؤثر على نشوء التهاب المفاصل الروماتويدي.

تُسلط دراسة من العام 2009 الضوء على ثلاثة أنواع من الجراثيم اللاهوائية التي تنتشر في تجويف الفم وتم رصدها في سائل المفاصل عند التهابها. تكشف دراسات عدة أن الأجسام المضادة لبعض أنواع الجراثيم اللاهوائية ترتبط بأمراض دواعم السن وقد تؤثر على نشوء التهاب المفاصل الروماتويدي.

يظن بعض الباحثين أن هذه الجراثيم قد تطلق استجابة مناعية مرتبطة بالتهاب المفاصل عبر إنتاج بروتينات قادرة على إفراز أجسام مضادة للبروتين المضاد للسيترولين.

يبدو أن هذه العناصر تعزز الاستجابات الالتهابية في أنواع مختلفة من الخلايا، بما في ذلك الخلايا العظمية. تكشف الدراسات أن هذه الاستجابة التي تطلقها الأجسام المضادة قد ترتبط بالأضرار العظمية التي تصيب مفاصل المصابين بالالتهاب الروماتويدي.

لهذه الأسباب وسواها، بات رصد الأجسام المضادة للبروتين المضاد للسيترولين يُعتبر اليوم أدق مؤشر بيولوجي على التهاب المفاصل الروماتويدي في مصل الدم.

كذلك، يبدو أن رصد تلك الأجسام المضادة في مصل الدم يسهم في توقع نشوء التهاب المفاصل الروماتويدي قبل سنوات من تشخيص الحالة عيادياً أو ظهور أعراضها.

لهذا السبب، قررت فِرَق بحثية عدة، بما في ذلك الفريق المشارك في الدراسة الأخيرة، استكشاف الرابط بين تغيّر تركيبة ميكروبات الفم وعناصرها الأخرى وتطور التهاب المفاصل الروماتويدي. في الدراسة الجديدة، حلل الباحثون ميكروبات الفم ووضع دواعم الأسنان لدى ثلاث مجموعات مؤلفة من خمسين شخصاً.

كان المشاركون في المجموعة الأولى مصابين بالتهاب المفاصل الروماتويدي المبكر، وشملت المجموعة الثانية أشخاصاً معرضين لهذا الالتهاب. أما المجموعة الثالثة، فلم تكن مصابة بالالتهاب ولا معرضة له بل كانت تتمتع بصحة جيدة عموماً وغير مصابة بأمراض المناعة الذاتية.

فحص أطباء الأسنان جميع المشاركين لتقييم وضع دواعم أسنانهم. تحقق الأطباء من وجود نزيف في اللثة أو التهاب سطح اللثة وإلى أي عمق تستطيع أدوات الأسنان الوصول في بطانة اللثة.

كذلك، احتسب الأطباء عدد الأسنان في فم كل مشارك وعدد الأسنان المفقودة أو المصابة بالتسوس وتأثير طقم الأسنان القابل للإزالة. كما أنهم سألوا المشاركين متى كانت آخر مرة نظفوا فيها أسنانهم واستفسروا عن طبيعة تدابيرهم للحفاظ على نظافة الفم.

في الوقت نفسه، جمع العلماء عينات من غطاء اللسان واللعاب ولويحات الأسنان تحت اللثة. وبعد استعمال الأجهزة اللازمة لتضخيم الحمض النووي الموجود في تلك العينات، جمع الباحثون الميكروبات داخل العينات وحللوها واحتسبوا كميتها، ثم قارنوا الاختلافات الميكروبية بين المجموعات الثلاث.

لم يرصد الباحثون أي فرق في وضع دواعم الأسنان بين المجموعات أو في عينات لويحات الأسنان. لكن برزت اختلافات معينة بين لعاب الفم وغطاء اللسان لدى المصابين بالتهاب المفاصل الروماتويدي المبكر والمعرضين لهذا الالتهاب مقارنةً بالمجموعة المرجعية.

كانت كميات الجراثيم المنتمية إلى نوع بريفوتيلا وفيلونيلا أعلى مستوى في العينات المأخوذة من المصابين بالتهاب المفاصل الروماتويدي المبكر والمعرضين لهذا الالتهاب مقارنةً بالمجموعة المرجعية. وكانت كمية جرثومة فيلونيلا أعلى مستوى على غلاف اللسان لدى المصابين بالالتهاب أيضاً.

تكشف هذه النتائج برأي الباحثين وجود رابط محتمل بين ميكروبات الفم والتهاب المفاصل الروماتويدي.

حتى أن جراثيم بريفوتيلا وفيلونيلا وأنواع أخرى مرتبطة بنشوء الالتهاب قد تطلق استجابات مناعية تؤثر على تطور التهاب المفاصل الروماتويدي.

يكتــــب الباحثون في تقريرهم أن بعض سلالات جرثومة بريفوتيلا قد يُسبب التهاباً مزمناً وقادراً على إطلاق خلايا مناعية في أنحاء الجسم. في بعض الحالات، يتلاشى اختلال التوازن الميكروبي جزئياً بسبب علاج التهاب المفاصل الروماتويدي.

استنتاجات عامة

في مقابلة مع مجلة "ميديكل نيوز توداي"، صرّحت الدكتورة فانيسا كرونزر التي شاركت في كتابة مراجعة جديدة حول مسببات التهاب المفاصل الروماتويدي: "إنها دراسة مثيرة للاهتمام وأظن أنها تُحقق هدفَين. أولاً، هي تدعم الفرضية المرتبطة بالأصل المخاطي لالتهاب المفاصل الروماتويدي. ثانياً، هي تفترض أن اختلال التوازن الميكروبي يحصل قبل نشوء المرض، ما يعني أنه قد يؤثر على تطور الالتهاب. هذا البحث هو خطوة مهمة ضمن الجهود الرامية إلى فهم مسببات هذا المرض البارز".

في السياق نفسه، تقول المشرفة على الدراسة، جوهانا كروز: "تثبت النتائج التي توصلنا إليها أن جراثيم الفم قد تلعب دوراً مؤثراً في نشوء التهاب المفاصل الروماتويدي. قد يؤدي استهداف هذه الجراثيم إلى تراجع مخاطر الالتهاب. تستطيع الأبحاث المستقبلية أن تُركّز على استراتيجيات تستهدف هذه الجراثيم وتُحسّن صحة الفم، حتى أنها قد تؤدي في نهاية المطاف إلى طرح تدابير فعالة للوقاية من المرض".

دراســـــة مـــــحـــــدودة

كانت الدراسة قوية على مستويات عدة، لكن برزت أيضاً شوائب تستحق الذكر. تلقى المصابون بالتهاب المفاصل الروماتويدي المبكر علاجاً يستهدف هذا المرض، لكن لم يتلقَ المعرضون للالتهاب أو المشاركون في المجموعة المرجعية علاجاً مماثلاً. كذلك، لم يجمع الباحثون معلومات حول عوامل قد تؤثر على لويحات الأسنان مثل الحمية الغذائية.

للتأكد من هذه النتائج، يدعو الباحثون إلى جمع قواعد بيانات متعددة لفترات أطول من الوقت في الدراسات المستقبلية، ومن الأفضل استعمال مجموعات كبيرة من المشاركين ووسائل متماسكة لجمع العينات. في مطلق الأحوال، ربما كشفت هذه النتائج الأخيرة معلومة أساسية حول مسار تطور التهاب المفاصل الروماتويدي الذي لا يزال معقداً وغامضاً. قد يكون هذا النبأ إيجابياً لملايين المصابين بهذا الالتهاب وخبراء الصحة الذين يحاولون تشخيص الحالة ومعالجتها.

ثمة حاجة إلى إجراء أبحاث إضافية عن هذا الموضوع طبعاً، لكنّ تحسين صحة الفم يفيد جميع الناس، ولن يتضرر المعرضون لالتهاب المفاصل الروماتويدي من التنبه إلى صحة فمهم في جميع الحالات.


MISS 3