كارولين مانغيز

إحتلّ المرتبة الأولى في المعهد الموسيقي في باريس

إبراهيم معلوف: الاختلاف رسم شخصيّتي وموهبتي ليست فطريّة

3 حزيران 2021

المصدر: Paris Match

02 : 00

"اسمي إبراهيم. أنا لبناني مسيحي. كان يمكن أن أحمل اسم جورج أو ميشال، لكن اختار لي والداي هذا الاسم الذي يحبانه مع أنه قد يوحي للكثيرين بأنني مسلم أو يهودي".

هكذا يُعرّف إبراهيم معلوف عن نفسه. هو مقتنع بضرورة أن يعطي أفضل ما لديه على جميع المستويات. وحده القَدَر الذي جعله يولد في بيروت تحت القصف في تشرين الثاني 1980 أقنعه بالمهمة التي يريد الاضطلاع بها في حياته. يحمل إبراهيم معلوف ذكريات قوية حول الحرب الأهلية التي أجبرت والدَيه على التوجه إلى المنفى الفرنسي. كانت رحلات الذهاب والإياب خلال بضعة أشهر من السنة خطيرة: "كنا نصل بالمركب من قبرص لأن المطار كان مغلقاً. كنتُ حينها في عمر الخامسة أو السادسة. عند تشغيل مداخن مرفأ بيروت، كان يُفترض أن تنطفئ جميع الأضواء استعداداً لرسو السفن. كنا نختبئ في الظلام وننتظر لساعات على وقع أصوات القذائف".

في مرحلة الدراسة الابتدائية، كان إبراهيم يشعر بأنه مختلف عن الآخرين حين يروي تفاصيل عطلته "الفوضوية" فيما يسرد رفاقه قصصاً عن السواحل الأوروبية الآمنة. يعترف إبراهيم: "هذا الاختلاف رسم معالم شخصيتي. لطالما شعرتُ بأنني مختلف عن غيري". في بداية التسعينات، فكّر والداه بالعودة إلى لبنان، لكنه اعترض مع شقيقته على ذلك القرار لأن مدرستهما وأصدقاءهما وحياتهما كلها أصبحت في فرنسا. يشعر معلوف بالراحة في هذا البلد. في عمر التاسعة، ترك مدرسة كاثوليكية خاصة وانتقل إلى مدرسة رسمية. هو يعترف بأن مدرسة الجمهورية ساعدته على الاندماج في المجتمع.

بتأثيرٍ من أساتذة اللغة الفرنسية، اكتشف إبراهيم عالم الأدب، لا سيما أعمال عمّه الكاتب أمين معلوف، فحفظ عن ظهر قلب كتابه Les Identités meurtrières (الهويات القاتلة) وما كان يفارقه، وسرعان ما اعتبره فلسفة بحد ذاتها.

أصبح إبراهيم مهووساً بالموسيقى منذ مرحلة بكالوريوس العلوم. يعود هذا الشغف إلى طفولته. في إحدى الليالي، استيقظت والدته على وقع ضجة خفيفة، ثم شاهدت ابنها وهو يضع خوذة على رأسه ويؤلف الألحان. كان يصعد على المسارح منذ صغره ولطالما طلب منه الناس توقيعه. كان حينها في عمر موزار... لكنه لم يشعر يوماً بأنه عبقري. هو يؤكد على أن موهبته ليست فطرية، بل إنه نشأ بكل بساطة في بيئة عائلية مناسبة. كانت والدته عازفة بيانو، وبرع والده في العزف على البوق كونه خرّيج المعهد الموسيقي الوطني الأعلى في باريس. لم يوبّخه أحد يوماً حين يُحدث أي ضجة أثناء عزفه على مختلف الآلات الموسيقية التي يجدها في محيطه. يتذكر إبراهيم أن والده كان يجبره على التدرّب: "كنتُ أبكي أحياناً. تتطلب الموسيقى درجة من الثقافة والقواعد الدقيقة. علّمني والداي هذه الدروس بأسلوب صارم وشجّعاني على استعمالها بالطريقة التي أريدها شرط أن أتقن ما أفعله".

يعكس أسلوب إبراهيم اليوم هذه المنهجية المبنية على خليط من الصرامة والخيال. هو بدأ يُعلّم الموسيقى والعزف على البوق والارتجال الموسيقي منذ أن كان في عمر السابعة عشرة. سطع نجمه سريعاً، فاحتل المرتبة الأولى في المعهد الموسيقي في باريس وفاز في المسابقات، لكنّ نجاحه الكبير كان تدريجياً لأن شركات الإنتاج رفضته طوال سنوات على اعتبار أن ألحانه غير قابلة للتصنيف. لكنّ هذه المصاعب لم تردعه، بل زادت قوة تصميمه: أنشأ معلوف شركته الخاصة Mister Ibe وأصدر ألبومه الأول في العام 2007، ثم تلاه 16 ألبوماً آخر ومجلدان وكان يُحقق في كل مرة أعلى المبيعات في خانة موسيقى الجاز. في العام 2014، كان أول عازف موسيقي منفرد يحصد جائزة "فيكتوار دو لاموزيك" ولا يزال الوحيد حتى اليوم.

لم يكن معلوف ينام كثيراً لأنه يؤلف معظم ألحانه في وقت متأخر. سرعان ما دخل إلى عالم الموسيقى التصويرية في الأفلام السينمائية، فشارك في أعمال مثل La vache (البقرة) للمخرج محمد حميدي، وYves Saint Laurent للمخرج جليل ليسبرت، وDans les forets de Siberie (في غابات سيبيريا) للمخرج صافي نيبو. ثم تقاطعت طرقه مع أسماء عالمية مثل كوينسي جونز الذي أصبح مدير أعماله في الولايات المتحدة، وهيربي هانكوك، وآشر، وستيفي ووندر... إنهم "نجوم معاصرون ومتواضعون" بحسب قوله.

بقي إقليم "إيسون" الفرنسي الذي أمضى فيه فترة شبابه ملاذه الآمن. هو يطمح إلى عيش حياة طبيعية ومليئة بالموسيقى شرط أن تكون هادئة وبعيدة عن الحشود الصاخبة، بما يشبه حياة المؤلف الموسيقي جان جاك غولدمان الذي يعتبره "قدوة في التواضع".

منذ أن جدّد إبراهيم معلوف تركيزه على بلده الأم المنكوب، أدرك أن لفت الأنظار إليه يترافق مع المخاطر. في العام 2013، أراد ترويج ألبوم Illusions، فنشر سلسلة من مقاطع الفيديو الفكاهية وسرعان ما غرق في المستنقع الإعلامي الجهنمي، فوقع ضحية الواقع الذي يرفضه ويتعلق بتضخيم الشائعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

نادراً ما يتكلم إبراهيم عن الحوادث الشائكة التي اختبرها. لا تزال يده اليمنى ترتجف منذ اليوم الذي كان يتجه فيه للمشاركة في حفل موسيقي في هولندا وأنزلته القوات المسلحة من القطار لأنه لم يطبع بطاقته: "أثبتتُ للمراقب أنني أملك البطاقة على هاتفي الخليوي واقترحتُ عليه أن أشتري بطاقة أخرى أو أدفع غرامة، لكنهم رموني على رصيف محطة القطار. لقد شعرتُ بالإهانة لدرجة أنني أصبتُ بنوبة عصبية".

في فترة اعتداءات باريس بين العامين 2015 و2016، هل كان الوضع ليختلف لو كان اسمه جورج أو ميشال ولم يكن أسمر البشرة؟ يعود هذا السؤال اللاذع إلى الواجهة دوماً. خلال الفترة نفسها، حين كان إبراهيم يستعد لركوب قطار "يوروستار" في محطة القطارات الشمالية للتوجه إلى مهرجان لندن لموسيقى الجاز والمشاركة في حفل موسيقي في "قاعة الملكة إليزابيث"، استدعاه الإنتربول على خلفية انتحال شخصية وكانت القضية تتعلق بجواز سفر مفقود. عند انتشار هذه الأخبار، فاضت شبكة الإنترنت بالتعليقات العنصرية، فكتب البعض: "إذا كان يجيد العزف على البوق، لا يعني ذلك أنه يعجز عن زرع القنابل...". يقول معلوف: "لا أهمية لشهرة الشخص. يحكم عليّ الناس دوماً بناءً على اسم إبراهيم". لكن هل يعرف المستخدمون الذين يصفونه بالإرهابي على تويتر أنه شارك في جنازة تيغنوس، رسام الكاريكاتير في مجلة "شارلي إيبدو"؟ وهل يعرفون أن آخر حفل موسيقي حضره هذا الأخير هو حفل لإبراهيم معلوف؟ وهل شاهدوه حين انضم إلى المغني ستينغ لإعادة افتتاح مسرح "باتاكلان"؟ وهل يعرفون أغنية "خريف في باريس" التي لحّنها وغنّتها المغنية لوان وكتبها عمّه أمين معلوف تكريماً لضحايا الاعتداءات؟ تتمحور هذه القطعة الموسيقية حول آمال آلاف المهاجرين الذين يقصدون باريس من كل مكان لعيش حياة كريمة.

تذكّر إبراهيم حادثة أخرى فجأةً فقال: "كنتُ قد فزتُ بجائزة "فيكتوار دو لاموزيك" مجدداً وجائزة "سيزار" عن أفضل موسيقى تصويرية في أحد الأفلام، وكنا نستعد للقيام بجولة كبيرة...". لكن انهارت هذه الخطط كلها مجدداً. في 3 آذار 2017، نشرت صحيفة "لو باريزيان" مقالة عن شابة عمرها 18 عاماً كانت قد تدرّبت قبل ثلاث سنوات في شركة إنتاج إبراهيم معلوف. اتهمته هذه الفتاة بالتحرش بها. لم تُحقق الصحيفة بالقضية قبل نشر الخبر وسرعان ما اشتعل الوضع. كان إبراهيم حينها في تايوان، ثم بدأ يتلقى سيلاً من الرسائل. وحين عاد إلى دياره، عزل نفسه في منزله: "لم أقابل أحداً طوال شهر ونصف. كانت والدتي تضع الأغراض على عتبة الباب وبالكاد كنت أعانقها".

أطلق القضاة في مدينة "كريتاي" تحقيقاً حول هذه الاتهامات. لم يعد معلوف يستطيع النوم في تلك الفترة، بل راح يسترجع الذكريات وأطلق تحقيقاً خاصاً به لدحض تلك الأكاذيب واحدة تلو الأخرى. واجه معلوف قضاة كانوا يُعيّرونه دوماً "بثقافته" وقد حكموا عليه في البداية بالسجن لمدة أربعة أشهر مع قابلية تأجيل تنفيذ الحُكم، فناضل بكل قوته لتحدي الوقائع المزعومة ضده. استرجع معلوف الأمل وعاد إلى تنظيم الحفلات الموسيقية التي أنقذته من تلك الفترة العصيبة بعد ظهور أدلة على براءته ورصد اضطرابات نفسية لدى الفتاة التي وجّهت له الاتهامات. يقول معلوف: "لقد صوّرتُ تلك الجولة تحديداً كي أثبت لابنتي ليلي بأن الاستسلام ممنوع".

منذ ذلك الحين، يمارس معلوف رياضة "كراف ماغا"، وهو فن قتالي يُعلّم الناس الدفاع عن أنفسهم وكيفية تلقي الضربات أيضاً. بعدما صبّت نتائج محكمة الاستئناف في باريس لمصلحته في 8 تموز الماضي، شعر إبراهيم بالراحة بعد إدانة المقالة الصحفية الكاذبة وبدأ يسلّط الضوء على لبنان وكأنه أراد بذلك "طيّ هذه الصفحة" نهائياً.

ثم بدأ صيفه السعيد حيث صبّ كامل تركيزه على مشروع جنوني يقضي بجمع أوركسترا سيمفونية قادرة على الارتجال، وتزامن هذا الحدث مع اقتراب عيد ميلاده الأربعين وزواجه من المغنية والممثلة اللبنانية هبة طوجي المعروفة في فرنسا بأداء دور "إزميرالدا" في الكوميديا الموسيقية "نوتردام دو باريس". كان هذا العمل محور حديث مرح بينهما في حديقة منزلهما العائلي في منطقة المتن اللبنانية حين سُمِع انفجاران صاخبان. يقول إبراهيم: "عند وقوع الانفجار الأول، ظننتُ أن شاحنة انقلبت على الطريق. لكن بعد سماع الانفجار الثاني، ظننتُ أن القصف تجدّد. اصطحبتُ هبة وليلي والأصدقاء إلى ذلك الملجأ الذي لم ننزل إليه منذ حقبة الحرب".

سرعان ما تبيّن أن الانفجار وقع في مرفأ بيروت. ثم اضطر إبراهيم وهبة للتراجع عن الزواج في لبنان الذي يشهد وضعاً متدهوراً وقررا الزواج في باريس في شهر أيلول الماضي في كنيسة "سان جوليان لو بوفر". كان صديقه الوفي ماتيو شديد شاهداً على زواجه. كانت هذه المرحلة بمثابة هدوء موقّت قبل نشوء عاصفة أخرى.

في شهر كانون الثاني الماضي، واجه إبراهيم معلوف موجة جديدة من الكراهية على موقع تويتر. أشاد المعلّقون بحفل رأس السنة الاستثنائي مع أوركسترا فيينا، لكنهم انتقدوا غياب التنوع في محتواه. هكذا تذكّر إبراهيم الشرخ الاجتماعي الذي يعيشه وتداعيات اختلاف هويته عن المحيطين به. ثم تطور الوضع إلى حد تلقيه تهديدات بالقتل. أرسل عضو ناشط في حزب "الجبهة الوطنية" رسالتَين إلكترونيتَين إلى مدير أعماله. كانت الرسالة الأولى تدعوه إلى جعل معلوف يلتزم الصمت، لكن استعملت الرسالة الثانية لهجة أكثر وضوحاً، فذكرت ما يلي: "أنتَ لم تنجح في إسكاته، لذا سنتولى نحن هذه المهمة".

لم يرفع الموسيقي أي شكوى لأنه شعر بالخوف من عواقب هذه الخطوة واعترف بأن أسلوب الترهيب جعله يتردد. لطالما لامته زوجته لأنه صريح أكثر من اللزوم ويسهل الوصول إليه، لكنه يجيبها بكل هدوء: "هكذا هي طبيعتي! تصرّفي أنتِ بالشكل الذي تريدينه".

مع ذلك، اقتنع إبراهيم معلوف بالاكتفاء بنشر قلوب في حسابه على تويتر. لكنّ الفوضى التي سيولد فيها ابنهما قريباً لا تجعله يفقد الأمل. حين يعزف على البوق ويغمض عينيه، يقول هذا الموسيقي إنه يشاهد أشكالاً وألواناً قادرة على تحرير عواطفه. في هذا العالم الساحر، بالكاد يلاحظ إبراهيم معلوف أن يده اليمنى لا تزال ترتجف قليلاً!


MISS 3