جاد حداد

...L’'Incroyable Histoire du facteur Cheval قصيدة شاعرية عن الحياة!

19 أيلول 2019

10 : 56

يُخرِج نيل تافرنييه فيلم جاك غامبلان الجديد L’Incroyable Histoire du facteur Cheval (قصة ساعي البريد شوفال المدهشة) بعد ست سنوات على تعاونهما في De toutes nos forces (من كل قوانا). يعرض الفيلم الجديد تفاصيل مبادرة تنمّ عن الحب والابتكار الفني، ويروي حياة فرديناند شوفال، باني "القصر المثالي". إنها قصة نجاح رائعة وتختلف عن توجهات السينما التي تُركّز بشكلٍ أساسي على الأداء التمثيلي.

يعرف معظم الناس في فرنسا قصة "القصر المثالي"، ذلك البناء الاستثنائي الذي شيّده ساعي البريد فرديناند شوفال (1836-1924) في بلدة "هوتريف"، "دروم"، على مر 33 سنة. القصر عبارة عن تحفة فنية مميزة وصُنّف نصباً تاريخياً منذ العام 1969. على غرار أندريه مارلو الذي دعا في الماضي إلى الاعتراف بقيمة هذا العمل الفني، يريد نيل تافرنييه اليوم استخلاص درس عن الحياة وتكريم بطل القصة عبر تصوير شاعرية المبادرة التي قام بها.

يتّسم عمل تافرنييه الجديد بميزة فريدة من نوعها، فهو يعرض سيرة حقيقية بأسلوب حر ويقدّم في الوقت نفسه فيلماً روائياً من الدرجة الأولى، وكأنه فيلم وثائقي تاريخي. لكنه يبقى عملاً رومانسياً جميلاً وتكثر فيه اللوحات الفنية البارزة. للوهلة الأخرى، يمكن تشبيه ساعي البريد "شوفال" بشخصية "أميلي بولان" الشهيرة، هو بتاريخه المدهش وهي بمصيرها المذهل، مع كل ما يرافق هذه القصص من أجواء شاعرية، مع أن الفيلمَين لا ينتميان إلى الفئة نفسها.

على غرار النجاح الضخم الذي حققه جان بيار جونيه (مخرج Amélie)، يحملL’Incroyable Histoire du facteur Cheval، على طريقته الخاصة، جميع مقادير النجاح: إخراج احترافي، وبطل قصة لا يُنسى، وقيم أساسية.

يظهر ساعي البريد "شوفال" في المشاهد الأولى كرجلٍ وحيد وفظ ولا يرافق إلا أمثاله. حتى أنه يبدو شبه أخرس قبل أن تجتاحه أحداث الحياة، لكن من دون أن تخنقه، فلا تُسعِده ولا تحزنه. يقطع "شوفال" أكثر من 30 كيلومتراً يومياً لتسليم البريد، ويهتم بصور البطاقات البريدية ويكتشف عن طريقها العالم الشاسع وعجائبه. بعد وفاة زوجته الأولى، يتزوج من "فيلومين" وينجبان ابنتهما "أليس". ثم تدور الأحداث في العام 1879، حين يبدأ "شوفال" ببناء حلمٍ يسكنه منذ سنوات.



يطرح الفيلم مفارقة ذكية، فيحاول إنهاء قصة لا نهاية لها! هو يبني أقسامه ويكشف عن مغزاه، أي المعنى الذي يبحث عنه فرديناند في الحياة، بما يتماشى مع إيقاع بناء "القصر المثالي". يقدم جاك غابلان أداءً مدهشاً بدور هذا الرجل الذي يعجز عن احتضان مولودته الجديدة أو التفوه بكلمات حنونة، لذا يقرر أن يبني قصراً للتعبير عن حبه لها ولزوجته والعالم أجمع.

إنه رجل قاسٍ بقساوة الحجارة التي يلتقطها عن الطرقات، لكنه مفعم بعواطف قوية في الوقت نفسه. يغطي السيناريو مدة بناء القصر الذي استغرق 33 سنة والسنوات الأخيرة من حياة "شوفال". يتطلب هذا الدور أداءً جسدياً قوياً، وقد استعد له الممثل عبر التدرّب على أعمال البناء وانغمس في الشخصية على أكمل وجه، وهذا ما يفسّر أداءه الرائع.

بنظر الجميع، "شوفال" رجل أحمق أو مجنون أو غير مسؤول، ومع ذلك لا يتنازل عن حلمه، ولا تزيده المصائب المتلاحقة في حياته إلا إصراراً على إنجاز مهمته. لذا تضطر "فيلومين" للتعرف عليه أولاً، وتعكس ليتيسيا كاستا في هذا الدور أعلى درجات الصبر والهدوء والحذر، لكن سرعان ما تتحول هذه الصفات إلى دعم ثم فخر كبير. تتمتع هذه الممثلة بحضور استثنائي وتبدو أشبه بتحفة فنية حقيقية وسط الأجواء الشاعرية المستوحاة من لوحات هنري فانتين لاتور (1836-1904) ورسامين معروفين آخرين في تلك الحقبة.

على صعيد آخر، يعكس تصوير فنسنت غالو الجميل ودقة الإخراج أجواء فرنسا الريفية، حتى أن الجو العام يُذكّرنا بلوحة "حاصدات السنابل" للرسام جان فرانسوا ميليه ويروي حكايات ذلك العالم بكل فخر. لا مفر من أن نُركّز على زقزقة العصافير التي تُسمَع في لحظات دقيقة جداً من القصة، فضلاً عن درجات الألوان التي تناسب كل شخصية. لن نشعر بلمسة من التفخيم السطحي إلا في الموسيقى أحياناً وفي المشهد الأخير، لكنها لن تُشوّش على العمل عموماً.

لكل من يشعر بأن القصة تفتقر إلى تحد حقيقي، يعطي المخرج شخصية "شوفال" دافعاً أوضح من القصة المتداولة، فيقول لابنته "أليس": "أريد بناء قصر على شرفك"! هذا ما يسمح للفيلم بطرح قِيَمه الأساسية، أبرزها الحب والكرامة. ينجح الفيلم في نشر هذه الأفكار الجميلة ويحاكي أكبر عدد من المشاهدين بكل سلاسة، من دون الحاجة إلى أي مؤثرات خارقة.

إنها قصة حب ناجحة جداً، لكنها تشمل جوانب أخرى تنكشف تدريجاً مع تقدم الأحداث. اليوم أكثر من أي وقت مضى، قد تُعتبر فكرة "شوفال" سخيفة وتافهة وغير مسؤولة. لكن بقيت قصة ساعي البريد مؤثرة حتى هذا اليوم لأنها تعكس عملاً نقياً وجنوناً مثالياً، ويكون هذا الجانب غير المسؤول شرطاً أساسياً من أي تجربة كبرى في الحياة والفن.

حياة فرديناند شوفال هي أشبه بقصيدة غنائية طويلة ودعوة إلى التمسك بما نفعله، من دون احتساب الساعات أو التذمر من مصيرنا. إنها حياة بسيطة ومحترمة وعظيمة بإنجازها الممتد على عقود عديدة والمبني بكل بساطة على تحقيق الحلم المنشود. قد يبدو هذا الحلم مبالغاً فيه، لكن اختار شوفال هدفاً عظيماً واتخذ خطوات صغيرة لتحقيقه، حجرة تلو الأخرى، يوماً بعد يوم. ماذا لو قَتَلتْه تلك المهمة؟ حصل العكس، فعاش من أجل إتمامها! ينجح L’Incroyable Histoire du facteur Cheval في نقل هذه العبرة بأفضل طريقة.

ربما يدعونا هذا العصر إلى الثورة، لكن يصبّ كل شيء في النهاية في نقطة التقاء واحدة. في هذا العالم، حيث أصبح كل شيء عابراً ومحسوباً وموجّهاً نحو تحقيق نجاحات غير واقعية، يمكن اعتبار ساعي البريد شوفال نموذجاً للإنسانية والشجاعة والتفكير بالغير. يطرح الفيلم بهذه الطريقة رداً فنياً وسياسياً راقياً على أزمات هذا الزمن.


MISS 3