عيسى مخلوف

وَقفَة من باريس

الإنترنت وسيلة تَجَسُّس وتَواصُل ومعرفة

21 أيلول 2019

13 : 20

"ذاكرة حيّة" عنوان كتاب إدوارد سنودن الذي يروي مذكّراته، وقد صدر مؤخّراً بلغات عدّة وأثار ضجّة كبيرة على المستوى العالمي. سنودن، عالِم الكمبيوتر الأميركي والموظّف السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية، ساهم في برنامج التجسّس العالمي الذي أنشأته الولايات المتحدة الأميركية بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر. في العام 2013، سرّب معلومات عن هذا البرنامج وكان أوّل من كشف حجم عمليّة التجسّس هذه وخطرها. وأشار إلى أنّ حكومات بلده وحكومات العالم حجبت عن الناس معرفة أنّهم مراقبون، وأنّ الرقابة، على الاتصالات الهاتفيّة والإنترنت، تطال كلّ شيء بما في ذلك حياتهم الحميمة، من خلال المواقع التي يزورونها والرسائل التي يتبادلونها. أكثر من ذلك، فتح عينيه على حقيقة تتجاوز الخيال العلمي حين تنبّه إلى أنّ زملاءه من الجواسيس راحوا يتجسّسون أيضاً على نسائهم وصديقاتهم ويقتفون أثرهنّ. من جانب آخر، اعتبر سنودن أنّ شركات ومواقع الإنترنت العملاقة، ومنها "غوغل" و"فيسبوك" و"واتس أب" و"أمازون"، تشكّل أذرعاً وأدوات في خدمة الرقابة الكونيّة المنظّمة.

إذا كان استعمال الإنترنت يمرّ، بالضرورة، بهذه الخطورة، ويجعل الحياة الخاصّة مغتصبة ومكشوفة إلى هذا الحدّ، فهل علينا أن ننسحب من العالم الرقمي وحواسيبه وأجهزته المتنوّعة؟ يقول سنودن إنّ المشكلة لا تأتي من هذه الأدوات بل من طريقة استعمالها، ومن نظام سياسي يعمل على تضييق الحرّيات، وخصوصاً حرية التعبير، وترسيخ الخوف بحجّة محاربة الإرهاب، ممّا يضع الديموقراطيات نفسها في خطر. واعتبر أن الاستسلام لهذا الواقع يزيد من حدّته وتعقيده، وأنّ مواجهته ممكنة في حال كان ثمّة وعي لمعنى أن يكون المجتمع حراً أو منزوع الحرية ولا حقوق فيه للمواطنين.

يتحرّك العالم اليوم، إذاً، في مدار جديد هو مدار التكنولوجيا والمعلوماتيّة. هذا التغيُّر الحاصل بوتيرة متسارعة يلامس مختلف مرافق الحياة والميادين، ويطرح أسئلة كثيرة حول مآلاتها. وثمّة من يتساءل: هل يستقيم المستقبل بعد اليوم من دون هذه التكنولوجيا التي تدخل معها البشرية مرحلة جديدة من تاريخها؟ وهل ينحصر الكلام عنها بصفتها أدوات تجسّس فحسب، أم أنّ المسألة أكثر اتساعاً وأكثر تعقيداً، لا سيّما أنّ أثرها يذهب بعيداً على الصعيد التطبيقي، وهذا ما يتجلّى في مجالات عدّة منها الطبّ. ولقد تأكّد أنّ استعمال الوسائط المتعدّدة التي ألغت المسافات حقّق نتائج مدهشة في إنقاذ بعض المرضى بفضل سرعة إرسال التشخيص عن بُعد، وكذلك عقد المؤتمرات الطبّية عبر الأقمار الصناعية وإجراء عمليّات جراحيّة دقيقة.

من المجال الطبّي إلى المجال الصناعي، إلى إدخال البرامج المعلوماتيّة بطريقة مكثّفة في مجالات الإبداع المتنوّعة، وكذلك في المدارس والمناهج التربويّة. هناك دراسات كثيرة في الغرب تتناول ظاهرة المعلوماتيّة وتأثيرها على الفرد والمجتمع. ولقد أجمع عدد كبير من علماء الاجتماع المتخصّصين في دراسة العلاقة بين الإنسان وأجهزة الكمبيوتر على أنّ هذه الآلات ليست مجرّد أدوات كالطائرة والسيّارة والغسّالة، بل هي أشياء أخرى مختلفة تماماً. معها تتغيّر علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين، فضلاً عن أثرها الواضح في رسم حدود جديدة بين ما هو واقعي وما هو افتراضيّ. تقول سيري توركِل، المحاضِرة في "مؤسّسة ماسّاتشوستس للتكنولوجيا"، وهي من أوائل العلماء الذين درسوا هذا الموضوع: "صحيح أنّ أجهزة الكمبيوتر هي أشياء، لكنّها أشياء نفكّر عبرها، ومعها يتغيّر أسلوبنا في التفكير. إنّها تؤسّس لثقافة جديدة لم يعرفها العالم من قبل". وتلاحظ أنّ الأطفال الذين انخرطوا في هذه الثقافة يدركون أنّ الكمبيوتر، وإن لم يكن إنساناً حيّاً على المستوى البيولوجي، له ردود فعل ذكيّة، كأن يَخدع ويُناور، ويدخل في منافسة مع لاعبين محترفين، كما حدث ذات يوم عندما ألحق كومبيوتر "إي بي إم" الهزيمة بكاسباروف، بطل العالم في لعبة الشطرنج.

لكن من سلبيات هذه الآلة أنّها، بخلاف ما كانت عليه الثقافة الكلاسيكيّة، لا تمنح الأدوات اللازمة التي تحرّض على التفكير وطرح الأسئلة. ففي العالم الافتراضي نتلقّى ما يجري حولنا وكأنّه أمر واقع. نستسلم وننصاع بسهولة، أحياناً، لما يقع تحت نظرنا. من هنا جاءت الدعوة التي أطلقها بعض المختصّين في العلوم الإنسانية في أميركا وبعض الدول الغربية، وفرنسا بالأخصّ، إلى تبنّي منهج تعليمي لا يعتمد فقط على تكنولوجيا المعلومات.

لا يستطيع العالم بعد الآن أن يتخلّى عن هذه التكنولوجيا ودورها في الحياة اليوميّة ورسم آفاق المستقبل، فإمّا أن تكون أحد عوامل التقدُّم للإنسانيّة جمعاء، أو يستأثر بها نَسَق سياسي واقتصادي محدَّد وتصبح أداة جديدة لمزيد من الظلم والاستغلال والتسلُّط.


MISS 3