طوني كرم

ما بين ضجيج الإعمار وصخب الموسيقى

ليل الأشرفية أقوى من العملة الصعبة

1 تموز 2021

02 : 00

"مفوّل"
لا يختلف المشهد في مار مخايل والجمّيزة عن غيره من مناطق السهر التي تحاول استعادة مظاهر الحياة مع بداية فصل الصيف سوى بالندوبات التي خلّفها إنفجار المرفأ في الأبنية المدمّرة ووجدان القاطنين كما الزائرين. مطاعم وملاهٍ لوهلة تأخذك إلى مكان آخر لم يشهد عصف إنفجار العصر في 4 آب، ولا على تبعات أشدّ أزمة إقتصاديّة في العالم. روّاد من المقيمين كما المغتربين، سوّاح عرب وأجانب، يستقطبهم حبّ الحياة في لبنان الذي يتميّز بحسن الإستقبال والضيافة، لتضيف مشهديّة الأشرفيّة هذه السنة، بصمة خاصة، ما بين ضجيج إعادة الإعمار في النهار وصخب الموسيقى في المساء.





المقاهي مكتظة حتى آخر كرسي وآخر ركن وآخر طاولة، ما يدحض أي كلام متشائم عن تداعي القطاع السياحي، زبائن لا يسألون عن ارتفاع الأسعار ولا يستهولون أصفار الفواتير. مشاهدات تخفي الكثير عن واقع المؤسسات السياحيّة وقدرة غالبيّة اللبنانيين على ارتيادها. فهل تشكل تلك المظاهر بارقة أمل يمكن التعويل عليها أو أنها الملجأ الأخير لكثيرين للإبتعاد عن مآسي النهار الطويلة وبلسمتها بقليل من الخمر في المساء؟

"وقت الثورة ثُرنا، ووقت الحجر إنحجرنا... بدنا نعيش!"عبارة يرددها روّاد مطاعم مار مخايل والجميزة وملاهيهما كما العاملون فيها، حيث يغيب التذمّر من الأوضاع السياسيّة والإقتصادية. مؤسسات نفضت عنها سريعاً مآسي 4 آب لاستقبال زبائنها، وأخرى شكّل عصف الإنهيار المالي ضربة قاضية لها. في معظم أماكن السهر المعروفة، الحجز المسبق ضروري في الويك أند كما طوال أيام الأسبوع بهدف تمضية بعض الوقت في أجواء من الموسيقى الصاخبة، وإن ضاق المكان في الداخل فالأرصفة تتسع.


حسن الضيافة بنكهة خاصة في الجمّيزة


الأسعار؟ ومن يسلْ؟

"روّاد السهر لا يسألون عن الأسعار، ولا يعانون إرتفاعها، الإستقبال والخدمة المميزة مطلبهم" كما يوضح زياد الذي يدير أحد المطاعم في محلّة الجميّزة، الواقع في الجهة المقابلة للعنبر الرقم 12 الذي أدّى إنفجاره إلى إلحاق أضرار كبيرة بالمؤسسة التي يعمل فيها. وقبل الإسترسال في واقع وظروف العمل اليوم، يعود زياد إلى يوم 4 آب 2020، ويستذكر لحظة عصف الإنفجار به وبزملائه وكيف تحول الشارع إلى منطقة منكوبة في لحظات. لكن الإرادة الصلبة دفعتهم إلى الصمود والعودة إلى عملهم في ظل غياب الدعم والإهتمام التام من قبل الجهات الرسميّة. وعن الظروف الإقتصاديّة وتأثيرها على مؤسساتهم، يشير إلى أن الإزدحام في المطاعم لا يعكس بالضرورة غياب الأزمة الإقتصادية، لأنهم كموظفين في الدرجة الأولى، فإنهم من أكثر المتضررين من الأزمة كون رواتبهم بالليرة اللبنانية، وإرتفاع أسعار الوجبات لا ينعكس بالضرورة على إرتفاع أجور العاملين في القطاع الذين يجدون صعوبة كسواهم في جبه الظروف الصعبة والإستمرار، والعبرة الأساسية بالنسبة إليهم تكمن بقدرة الزبائن على الإنفاق بعدما تقلصت القدرة الشرائيّة لدى كثيرين لتقتصر جلساتهم على شرب النرجيلة والمرطبات.

أمّا باميلا التي تعمل منذ ما يزيد على 8 أعوام في مار مخايل، فتشير إلى أن بعض الزبائن يقتصر إرتيادهم إلى المطاعم وأماكن السهر مرّة في الأسبوع بعدما اعتادت على رؤيتهم بشكل دَوْري، وتلفت إلى أنّها لا تجد حرجاً أمام الزبائن بسبب إرتفاع الأسعار، فالجميع أصبح يعلم أن الغلاء شمل جميع القطاعات، والمؤسسات السياحيّة إحدى تلك القطاعات التي تأثرت بشكل مباشر بهذا الإرتفاع الذي لا يزال مقبولاً بالنسبة إلى كثيرين. وتوضح في الوقت نفسه، أن المنطقة تستقطب العديد من الأجانب والعاملين في شركات أجنبيّة، عزز انهيار العملة الوطنية من قدرتهم الشرائيّة، فبعد أن كانت قنينة البيرة على سبيل المثال تسعّر بـ 7 دولارات على سعر صرف 1500 ل.ل. أصبحت اليوم بدولارين، وقِس على كل الأصناف الأخرى من الأطباق، ما شكل عاملاً تحفيزياً لهم ولغيرهم من السيّاح الذين وضعوا لبنان في صلب وجهتهم السياحيّة.


عودة الحياة


3 سهرات بـ 100 دولار

في المقابل، يعكس جوزف جبران، الراصد تحوّلات الشارع والملم بإيقاع الحركة في شارع السراسقة، نظرة مختلفة حول الإنتعاش الذي تعيشه المؤسسات السياحيّة اليوم. ويشير، بحكم عمله كـمسؤول عن الـ "فاليه باركينغ" إلى ان التحدّي يكمن في قدرة أصحاب المطاعم والملاهي على الصمود والإستمرار، بعد إقفال ما يزيد عن 100 مؤسسة سياحيّة، موضحاً أن المؤسسات الكبيرة أقفلت، والـ 30 مؤسسة المتبقيّة قلّصت قدرتها الإستيعابيّة لتخفيض نفقاتها التشغيليّة، لذلك تشهد ازدحاماً في أوقات الذروة، مؤكداً في الوقت نفسه أن الطبقة الوسطى لم يعد باستطاعتها السهر، وذوي الدخل المحدود لم يكونوا أصلاً من روّاد السهر، ليقتصر القطاع اليوم على الطبقة الميسورة الأقدر على متابعة نمط الحياة نفسه. ويقول ضاحكاً: "يلّي بيّاتن سرقونا، أولادهم عم يسهروا من حسابنا ومصرياتنا أكثر من الأول، أموالهم بالدولار، كانت 100 دولار تكفيهم لسهرة واحدة، اليوم تسهرهم 3 ليالي". بمسألة إقفال المؤسسات وواقعها الحالي تعذّر التواصل مع نقيب أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري طوني الرامي.


الرسامة لوتشيلا غابرييلا


خلوي يرن... نقيبٌ لا يرد عتمة في منطقة سياحية

وفي جولتنا التقينا سَعيد ملا، وهو يدير مطعماً وpub. أشار سعيد إلى غياب أي دور لوزارة السياحة في مساعدة المؤسسات الصغيرة على الإستمرار وتخطي الأضرار المتراكمة التي تواجهها، متسائلاً في الوقت نفسه عن كيفيّة استقطاب السياح والمغتربين في شوارع مظلمة تغيب الإنارة عنها في المساء وتُضاء مصابيح أعمدتها في وضح النهار، وعن الرسالة الذي يريد توجيهها إلى المسؤولين يقول: "أقلّ شي يكون في كهربا بمنطقة سياحيّة تحاول لملمة جراحها والصمود". سعيد الذي يشدد على أهميّة المبادرات الفرديّة ودعم المنظمات غير الحكومية في صمود مؤسساتهم في ظلّ تخلّي الدولة عن مسؤولياتها بعد الإنفجار، يطالب المؤسسات الرسميّة مواكبة إنحسار خطر كورونا، ودعم القطاع السياحي بعدما أصبح الملاذ الوحيد أمام المواطنين التوّاقين إلى الخروج سريعاً من الحجر المنزلي نحو السياحة الداخليّة المتنفس الوحيد الذي يبعدهم عن الأزمات السياسية والإقتصاديّة المتراكمة.

من الجميّزة إلى مار مخايل، روّاد من مختلف المناطق والبلدان، في جولة تفقدية للأبنية التراثيّة التي تشهد الترميم، والسكنيّة التي تنتظر عودة قاطنيها. أبناء الأشرفيّة يحلّون مكان المرشدين السياحيين. يروون بفرح على مسامع الزائرين جمال بيروت وصمودها وقدرتها على تخطي الصعاب، لينقل درج الفنّ المعروف بدرج مار نقولا قصصها بألوان وتعابير مختلفة، تلقى تقدير وإهتمام الزائرين.


نصف فتحة (تصوير فضل عيتاني)



الرسم أوّلاً

لوتشيلا غابرييلا، المتخصصة في الفنّ التشكيلي، تروي أنها وخلال مدّة الحجر التي قضتها في المنزل، كانت تفكر بكيفيّة التغلّب على الظروف التي فرضها الوباء، وكونها رسّامة، فالرسم بالنسبة لها أكبر قوّة يجب أن تتقن إستخدامها في كافة الظروف، لذلك جمعت "سلاحها"، وحملت معها مشاهدات الدمار من برج حمود مروراً بالمنطقة المدمّرة وصولاً إلى درج مار نقولا، لتجسّد بريشتها الأمل في الحياة، بعيداً عن اليأس والإنزواء تحت وطأة الظروف الصحيّة والإقتصادية.

لوتشيلا التي تهوى رسم الوجوه والشخصيّات، عملها على درج الفنّ يتعدّى طلب المارة (إن وجدوا)، لتنقل بريشتها أفكارها والمشاهدات التي تراودها بإنتظار زائرٍ ما، تلهمه خيوطها وألوان لوحاتها، لتؤكد في الوقت نفسه لـ "نداء الوطن" أن وجودها في هذه المنطقة يشكل ثورة شخصيّة ضدّ الواقع الإقتصادي والصحّي الذي نمرّ به، وبارقة أمل في وجه الحزن والكآبة الذي يسود المارة بين مشاهد الدمار وورش البناء، لتشكل خيوط لوحاتها بألوانها الفرحة أداة إستقطاب للمارة تخرجهم من واقعهم ويعبرون أمامها عن مشاعرهم. تحادثهم عن الفنّ وأهميّة العمل الذي تقوم به، ويبادلونها بأسمى كلمات التقدير لفنّها الجميل الذي يعكس الأمل والحياة.


أول "ضهرات" الصيفية


الرسّام جمال علماوي الذي ينتقل أيضاً سيراً على الأقدام من المتحف إلى درج مارنقولا، يتشارك هواجس لوتشيلا، مؤكداً في الوقت نفسه على إهتمام روّاد المنطقة بالرسم والموسيقى. وعن أسعار اللوحات الفوريّة التي ينجزها خلال 30 دقيقة، يقول "إن الذي يريد ان يرسم لا يسأل عن السعر"، ويشير إلى أن أغلب روّاد "الدرج" هم من الشباب والشابات الذين انطلقوا من جديد إلى الحياة الطبيعيّة بعد الحجر المنزلي الطويل، داعياً جميع اللبنانيين والمغتربين إلى زيارة الأشرفيّة التي تحاول الصمود في هذه المرحلة والمساهمة في عمليّة بلسمة جراحها بعد الظروف الصعبة التي تسبب بها الإنفجار.

مظاهر الحياة التي بدأت بالعودة تدريجياً إلى بيروت على الرغم من تحذيرات البنك الدولي من انهيار إقتصادي وشيك. وإذا كان الفنّ والموسيقى من لغات التواصل العالميّة الأولى بين جميع المكونات البشريّة، فإن لوحة الدمار من إهراءات مرفأ بيروت، إلى الأبنية المدمرة في الأشرفيّة، مروراً بالمقاهي والملاهي الصاخبة على وقع تحلل المؤسسات الرسميّة والإنهيار الإقتصادي والمالي في لبنان، يتطلّب الكثير من التفحّص لفهم قدرة الشعب اللبناني على التناغم مع هذه "المشهديّة المزيّفة" التي تعكس انهيار الطبقة الوسطى وإزدياد عوَز الفقراء فيها وتعزيز إمكانات المقتدرين على التحكم بمستقبل الفئات الأخرى، على وقع الموسيقى الصاخبة و"حبّ الحياة" في وطن يراهن على هجرة شبابه لإعانة شيبِه وإنعاش سياحته عوض الإستثمار بكفاءاته الشابة وإحتضانها، لتشكل بارقة أمل في إعادة إنتظام عمل مؤسساته السياسيّة ومنها الإقتصاديّة والسياحيّة والخدماتيّة، عوض إستقطابهم للسهر دورياً على "لحن" الإنهيار التام.