آن أبلبوم

الديموقراطيات لا تحاول حصد الإجماع

3 تموز 2021

المصدر: The Atlantic

02 : 00

الجنرال مارك ميلي

قال الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي، يوم الخميس الماضي: "لقد قرأتُ أعمال كارل ماركس ولينين. هذا لا يجعلني شيوعياً". ثم وصف المذيع تاكر كارلسون في قناة "فوكس نيوز" ميلي قائلاً: "هو ليس مجرّد رجل قذر، بل إنه غبي أيضاً".

خلال الثمانينات، كانت اختصاصات الأدب المقارن في جامعتي تفرض تلقي حصة في النظريات الأدبية. كانت تلك الحصة تتمحور حول الأدب الأفريقي الأميركي وقد منحت الأكاديميين سلسلة من الأُطُر والنظريات التي يمكن تطبيقها على قراءة الكتب. حصل ذلك في ذروة الحقبة التفكيكية التي استهدفت على وجه التحديد نوعاً من القراءة الدقيقة والمستوردة من فرنسا. كنا نقرأ إذاً نصوصاً قليلة حول مواضيع تهمّ مؤيدي النظرية التفكيكية. لكننا كنا نقرأ أيضاً أعمال فرويد وماركس والحركات النسوية وسواها.

لقد اضطررنا للتعامل مع مجموعة كبيرة من الكتابات الأكاديمية المشحونة، لكن كانت تلك الحصة الأدبية مفيدة على مستويات عدة. تعلّمتُ مثلاً أن الشخص يستطيع أن يقرأ النص نفسه من وجهات نظر مختلفة، ما يجعله يرصد مواضيع متنوعة فيه. عندما يقرأ شخص ماركسي كتاب Pride and Prejudice (كبرياء وتحامل) للكاتبة جاين أوستن مثلاً، قد يهتم باستكشاف طريقة تأثير الثروات والنفوذ وقوة التصميم على حياة جميع الشخصيات. وحين تقرأ امرأة نسوية الكتاب نفسه، قد تكتشف أن المواقف الذكورية تجاه النساء تؤثر على حياة الشخصيات أيضاً لأن قيمة المرأة والأحكام التي تصدر بحقها تتعلق في المقام الأول بأهليتها للزواج. أما مؤيدو فرويد، فسيلاحظون على الأرجح مجموعة مختلفــــة بالكامل من الأفكار.

بما أن أوســــــتن شخصياً كانت تهتم كثيراً بالرأسمالية والمجتمع الذكوري وعلم النفس (مع أنها ما كانت لتستعمل أياً من هذه المصطلحات)، قد تكشف أساليب القراءة المتنوعة جوانب جديدة من القصة. لكن كان الفرد يتعلم أيضاً كيفية البقاء على مسافة من أصحاب النظريات، لا سيما المعسكر الذي كان يزعم أنه الفريق الوحيد الذي يستطيع الوصول إلى الحقيقة. كان ضرورياً أن يبقى الجميع بعيدين عن الأكاديميين الماركسيين السيئين مثلاً، أي الفريق الذي يصرّ على اعتبار طريقة قراءته لكتاب Pride and Prejudice المقاربة الصحيحة الوحيدة. هذا التصرف أوصلنا إلى طرق مسدودة كثيرة: في الاتحاد السوفياتي (حيث أصبح الأكاديميون الماركسيون السيئون المعسكر الوحيد الذي يُسمَح له بنشر كل ما يريده)، لم تعد العلوم الأدبية مملة وباهتة فحسب، على غرار العلوم الدراسية بشكل عام، بل أصبحت خطيرة على كل من يحمـــل وجهة نظر مختلفة.

في تلك الحقبة، كانت نظرية العرق النقدية (إنه الفرع الذي يُحدد طريقة تأثير العنصرية على المؤسسات) ظاهرة محصورة في المجلات القانونية الغامضة، ولم نكن نقرأ كتاب Pride and Prejudice أو أي كتاب آخر انطلاقاً من وجهة النظر هذه. لكن بدأت أفكار مشابهة تنتشر منذ عقود. ذكر الناقد إدوارد سعيد في مقالة بعنوان "جاين أوستن والإمبراطورية" في العام 1993 مثلاً أن الأفكار غير المذكورة حول العبودية والاستعمار في روايات أوستن كانت بالغة الأهمية. كان والد أوستن إدارياً في مزرعة لقصب السكر في أنتيغوا، وكان اتكاله على عمل العبيد كفيلاً بتفسير جزء من ثروة عائلته. وفسرت زراعة قصب السكر أيضاً ثروة بعض الشخصيات في رواياتها. مع ذلك، نادراً ما كانت تلك الشخصيات تتكلم عن العبودية. إذا كان امتناع أوستن عن ذكر العبودية المسألة الوحيدة التي نعرفها عن هذه الكاتبة، سيتراجع فهمنا لطبيعة كتبها بدرجة كبيرة. لكنّ اطلاع الأكاديميين المتخصصين بأعمال أوستن أو المعجبين بها على مزارع قصب السكر غير المذكورة في كتبها يفتح آفاق تفكير جديدة حول أوستن والعالم الذي كانت تعيش فيه. في نهاية المطاف، هذا هو معنـى المعرفة الحقيقية.

أيّد الجنرال مارك ميلي خلال شهادته أمام الكونغرس في الأسبوع الماضي الفلسفة الكامنة وراء التعليم الليبرالي، أي تكثيف القراءة على أوسع نطاق، والإصغاء إلى الجميع، وإطلاق أحكامنا الخاصة حول المسائل المهمة. بعبارة أخرى، يستطيع الناس أن يقرأوا أفكاراً لا يوافقون عليها، ويجب أن يفعلوا ذلك أصلاً. يمكنك ان تقرأ أفكار ماركس مثلاً من دون أن تصبح ماركسياً. ويمكنك أن تقرأ نظرية العرق النقدية من دون أن تؤيدها وبغض النظر عن تعريفك لها. بفضل هاتين الخطوتين، قد يصبح الفرد شخصاً مثقفاً أو جندياً مثقفـاً في حالة ميلي.

يمكنك أن تقرأ التاريخ الأميركي بالروحية نفسها، مثلما تقرأ أي عمل أدبي رائع وتحاول فهم تعقيداته واختلافاته، والتمييز بين الظلام والنور والخير والشر. قد يُلهمك إعلان الاستقلال، أو يرعبك طرد الأميركيين الأصليين، أو تدهشك طاقة المهاجرين والمستوطنين على الحدود. يمكنك أن تستنتج أن الولايات المتحدة بلد عظيم وفريد من نوعه وتستحق قيمها الدفاع عنها. في غضون ذلك، قد تدرك أن هذا البلد نفسه ارتكب أخطاءً مريعة وجرائم مشينة. هل يصعب عليك أن تستوعب هذه الأفكار المتناقضة في الوقت نفسه؟

برأي ميلي، يجب أن يعرف الجنود أن الأميركيين من أصل أفريقي كانوا يُعتبَرون بشراً بمرتبة أقل من غيرهم ولم يتغير الوضع قبل خوض حرب أهلية وإعلان تحرير العبيد. ثم احتاج البلد بحسب قوله إلى مئة سنة أخرى كي يصدر قانون الحقوق المدنية في العام 1964. يُفترض ألا تطرح هذه الأحداث كلها أي إشكالية، فهي مجرّد سرد للوقائع المرتبطة بالتاريخ الأميركي ويتعلّمها معظم الناس في المدرسة الابتدائية. لكن بالنسبة إلى المذيع تاكر كارلسون من قناة "فوكس نيوز"، يصبح الفرد "قذراً" و"غبياً" بشكلٍ تلقائي لمجرّد أن يحاول فهم مجتمعه والاطلاع على شوائبه. دعت لورا إنغراغام، وهي مذيعة أخرى في القناة نفسها، إلى تخفيض تمويل الجيش رداً على تصريحات ميلي باعتباره "الشخص الذي اختاروه لتلبية نزوات الديموقراطيين المتطرفة". يبدو أن أمثال كارلسون وإنغراغام وغيرهم من محاربي الثقافة الذين يسيطرون راهناً على المشهد الإعلامي المحافظ يريدون منع دراسة التاريخ الأميركي، أي الاطلاع على حقيقة ما حصل في الماضي.

تحمل المجالس التشريعية في الولايات ومجالس المدارس التي يسيطر عليها الجمهوريون النوايا نفسها اليوم، وهي تحاول راهناً منع تعليم "نظرية العرق النقدية". يبدو أن معظم هذه الجهات لا تحمل فكرة واضحة عن معنى هذه العبارة، لذا لا مفر من تفسير قرار الحظر بطريقة عامة وخرقاء: يجب ألا يتعلم طلاب المدارس تاريخ العنصرية في الولايات المتحدة، ويجب ألا يتعلموا شيئاً عن العبودية، ويجب ألا نسمح لهم بالتفكير بالعواقب على المدى الطويل! يبدو أن هذا التوجه يحظى بإجماع عام في جزء من أوساط الحزب الجمهوري.

لكن قد يستاء نوع آخر من الأشخاص من موقف ميلي أيضاً. لا يمكن اعتبار نظرية العرق النقدية مرادفة للماركسية، ومع ذلك يتقاسم عدد من أبرز مؤيديها قناعة راسخة مع الماركسيين مفادها أن نظرتهم الخاصة هي الطريقة الصائبة الوحيدة لرؤية العالم. تبدو العنصرية البنيوية التي رصدوها حقيقية، على غرار الانقسامات الطبقية التي رصدها الماركسيون في الماضي. لكن لا تنتشر مظاهر العنصرية في كل مكان أو في كل مؤسسة أو في قلب كل إنسان طوال الوقت. بل إن أي تحليل للتاريخ أو المجتمع الأميركي يسيء فهم البلد بأسوأ الطرق إذا كان يُركّز على العنصرية البنيوية دون سواها. لن يتمكن هذا التحليل من تفسير السبب الذي دفع الولايات المتحدة إلى إصدار إعلان تحرير العبيد وقانون الحقوق المدنية وإيصال رئيس أسود إلى السلطة. هذه العقبة الكبرى لا تقف في وجه علماء القانون بقدر ما تعيق مسار الشعبويين والمحللين الذين تحولوا إلى ناشطين ويريدون إجبار الجميع على تكرار العبارات نفسها.

يتبنى الكثيرون، لا الجنرال ميلي وحده، فكرة وسطية عن هذا الموضوع. منذ بضعة أشهر، أجريتُ مقابلة مع تشارلز ميلز، الفيلسوف الذي نشر أشهر كتاب له بعنوان The Racial Contract (العقد العنصري) في العام 1997، حيث يقترح خيارات بديلة لقراءة أعمال هوبس ولوك وروسو وكانت. كان هؤلاء المفكرون ينتمون إلى عصر التنوير ويترقبون الديمقراطية الليبرالية، وقد اعتبروا جميعاً أن الحُكم الشرعي يجب أن يحصل على موافقة الشعب المحكوم. ذكر ميلز أن هؤلاء المفكرين كلهم تركوا أصحاب البشرة السوداء وجميع الناس غير البيض خارج العقد الاجتماعي، ثم عدّد عواقب هذه المقاربة. هل يُفترض أن نتوقف إذاً عن قراءة أعمال أولئك المفكرين؟ رداً على هذا السؤال، قال ميلز إن العكس صحيح وأن الحصة الأخيرة التي أعطاها للطلاب كانت تتمحور حول هؤلاء الفلاسفة ومنتقديهم المعاصرين، بما في ذلك هو شخصياً: "أنا أعتبر هذه العقلية فاعلة للحفاظ على التقاليد أكثر من قول العبارة التالية: هؤلاء الأشخاص عنصريون ومنحازون على أساس الجنس، لذا يجب أن نمتنع عن تعليم أعمالهم".

أخبرني ميلز بأن بعض زملائه لا يفهمه. هم يسألونه دوماً: "لماذا تحاول الحفاظ على هذا التقليد؟ يجب أن نتخلص من هذا النهج في تعاملنا مع الفلسفة السياسية ونبدأ من الصفر". لكنه يخالفهم الرأي. هو يتكلم عن وجود دينامية معينة يغفل عنها ذلك المعسكر داخل الليبرالية. تتفوق الديموقراطية الليبرالية على الأنظمة السياسية الأخرى بدرجة هائلة لأن قيادتها لا تكف عن التغير وإحداث التعديلات، فتتابع تحولاتها لاستيعاب أشخاص جدد وأفكار جديدة. لا تحاول الديموقراطيات الليبرالية حصد إجماع تام حول جميع المسائل طوال الوقت، كما فعلت الماركسية السوفياتية في الماضي.

للحفاظ على هذه المرونة، يفرض المجتمع الليبرالي الديموقراطي على مواطنيه أن يختبروا التعليم الليبرالي، ما يعني أن يتعلّم الطلاب والأكاديميون والقراء والناخبون أهمية متابعة الاطلاع على الكتب والتاريخ والمجتمع والسياسة من وجهات نظر مختلفة. لكن إذا لم يعد واحد من الحزبَين السياسيَين الأساسيَين في الولايات المتحدة مقتنعاً بهذا المبدأ وإذا تخلى الأكاديميون عن هذه القناعة أيضاً، إلى متى ستستمر الديموقراطية في هذه الحالة؟

MISS 3