د. فادي كرم

إمّا دولة وإمّا ممانعة

26 تموز 2021

02 : 00

لم يعد من الجائز والمنطقي النظر الى مشاكل الشعب اللبناني وحقيقة فشل وسقوط الدولة اللبنانية من منظار اعتبار ذلك ناتجاً عن ازمات حكم وإدارة فقط، فبالرغم من تفاقم المآسي الناتجة عن سوء الحكّام وفسادهم، وبالرغم من فشل النظام اللبناني في صون مصالح الشعب والوطن وردع المتجاوزين والمُخلّين بالقوانين والعقد الوطني، فالمعادلة الحقيقية الاساسية تبقى، إمَا بقاء الدولة اللبنانية مع إصلاح ادارتها لتُناسب التطورات الطبيعية للبشرية، وإمّا الاستسلام لمشيئة محور الدويلة الممانع لذهنية الدولة، والمُرتهن بشكلٍ كامل للمشروع الاقليمي الالغائي لسيادات الدول القائمة، ممّا يعني زوال الوطن.

ليس من الصعوبة الوصول الى هذا الاستنتاج الذي اصبح واقعاً معروفاً، وقد نبّهنا من خطورة مشروع الدويلة على استمرار الدولة، لان التهديد الذي يسبّبه لها لا يمكن ان ينحصر بتدمير المؤسسات الرسمية وتحجيم مفهوم السيادة الوطنية فقط، بل مُجرّد استمرار الدويلة يعني استمرار التفشّي السرطاني في جسم الدولة، ممّا يؤدّي حتماً الى موتها. أهمية البحث في هذه المسألة مجدّداً ومجدّداً يكمن في ان هذه القضية ستبقى هي المعادلة الاساسية التي ستُحدّد مصير لبنان من خلال الانتخابات القادمة، حيث لا خيار للشعب اللبناني إلا بين بقاء الدولة او استمرار الدويلة.


وفي حين تُقدِم شعوب العالم الى الاستحقاقات الديموقراطية لتختار بين البرامج والمشاريع المتعلّقة بشؤونها الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية، يذهب الشعب اللبناني الى هذه الاستحقاقات لمواجهة مصيره الوطني، فحسن اختياره يحفظ الوطن، امّا تجدّد الخطأ فيعني هذه المرّة فقدان الوطن، وعلى الشعب الصادق والصالح في الانتخابات القادمة مواجهة افرقاءٍ ومجموعاتٍ تفتقد للالتزام الوطني وتؤمن بأوطانٍ اخرى مرتبطة بها عقائدياً وفئوياً. الخطير المُستجد ان عدداً من هذه المجموعات إستغلّت النقمة الشعبية على الواقع السياسي الوطني، وإنضمّت بأجنداتها القديمة المُجمّلة الى الشعب المُنتفض عفوياً، ساحبةً منه جزءاً الى خنادق المطالب الاجتماعية والاصلاحية في الظاهر، ولكن بمسارٍ واسلوبٍ يُؤدّيان الى عكس ذلك تماماً. فلا إلاصلاح متوقّع من طروحاتهم البالية ولا المواطنية الحُرّة ستتأمن من خلال فكرهم إلالغائي، فاستراتيجياتهم القديمة الجديدة مُتمسّكة بالتوجّه السياسي العام الذي يُشكّل "حزب الله" عصبه الاساسي في هذه المرحلة من تاريخ الغزوات على الهوية اللبنانية.


إنّ اي طرف سياسي يعتمد مفاهيم التسوية مع الدويلة او التهاون في إستعادة السيادة والدخول في الشروط المُتبادلة، يُمكن تصنيفه في عداد الخط السياسي المُناقض للبنان الحرّ والاستمرارية للخط السياسي الممتدّ من سبعينات القرن الماضي الذي تجنّد تحت قيادة المشروع الفلسطيني على حساب الدولة اللبنانية وبعدها في المشروع البعثي المُعادي للوجود اللبناني، واليوم تحت قيادة ورعاية مشروع الجمهورية الاسلامية الايرانية. هذه المجموعات تنشط حالياً لتقديم المعونة للغازي الفكري الحالي، مُستغلّةً اخطاء جوهرية اقترفها الافرقاء السياديون الذين وكّلتهم ثورة الارز لانقاذ لبنان من براثن هذه المؤامرات، ومتأمّلة الحلول مكانها، علّها تتوكّل بتأمين الغطاء الجديد للدويلة مقابل حصولها على السلطة.

يتساءل الكثير من المواطنين اللبنانيين الصادقين والمطالبين بالحياة الكريمة عن صدقية الحركات الحالية التي تسعى لتمثيله، بدل الاحزاب التي حكمت او شاركت في الحكم في الفترة الاخيرة، وإنه لتساؤل مُبرّر تماماً نتيجة خيباته، وما الاجابة عنه بالوعود بل بالسيَر الذاتية وبالهوية السياسية وبالقدرة على الالتزام بالقرار الذاتي وتنفيذه. فحكم الناس على المسؤولين يأتي بناءً على المؤهلات، وهذه تُبنى على الركائز والعوامل والشروط المذكورة. ولذلك، على المواطن ان ينظر الى كل فريق من هذه المنطلقات فيكشف حقيقتهم، وهنا باب إنقاذ لبنان، لان الخيار الشعبي هو الذي سيحسم المستقبل، وإن انخداعه ببعض هذه المجموعات المتشاطرة ظاهرياً والثابتة فكرياً، سيقوّض الآمال المعقودة على التغيير لاسقاط الاداء الحالي، لان من سيحلّ مكانه سيكون الاسوأ. امّا الطريقة الافضل للكشف عن المستور، فيكون بأخذ الاجوبة على عدد من المسائل الجوهرية، ومنها فهم الحكمة من طرح البعض لالغاء الطائفية في الوقت الذي سيؤدي ذلك الى تكريس تمترس الدويلة في الدولة استكمالاً لالغائها للهوية اللبنانية الحُرّة، بدل ان يخدم التقدّم بمشروع علمانية المُجتمع وتطوير الادارة وتعميق مفهوم المواطنية والجدارة والكفاءة، كما إن الطروحات الهادفة لتحجيم القطاع الخاص ليس إلا لوضع اليد على مقتدرات الشعب وارزاق الدولة وصولاً لابقائه بالامرة، وهذا المنطق هو الذي تعتمده جميع الدول التي تعتبر المواطن زبوناً وليس صاحب حق، ويؤدي الى قتل الطموح والعدالة الاجتماعية والنجاح الفردي لاحلال الارتهان والتبعية والقمع الاجتماعي مكانه.

هنا هو الخيار الحقيقي الذي على المواطن اللبناني فرداً فرداً التفكير به قبل الذهاب الى الاختيار، فرفض السلطات الحالية مسألة لم يعد يجوز النقاش بها، فمن إتّكل عليها تخلّى عنها لانها اصبحت فاقدة الصلاحية بالنسبة لمشروعه الالغائي، ولذلك يلجأ الآن الى استبدالها بسلطات جديدة تأتي بتأييد من الاكثرية الشعبية وبخدعةٍ جديدة، فالويل من التيارات الجديدة التي ستحرص على استمرار الدويلة بدل الدولة، وللشعب الخيار، إمّا دوّلة وإمّا ممانعة.


MISS 3