أزمة خلافة تلوح في أفق الصين

02 : 00

يسيطر الرئيس الصيني شي جين بينغ على النظام السياسي في بلده بعد تسع سنوات تقريباً على وصوله إلى السلطة. هو يتحكم بصناعة السياسات المحلية ونشاطات الجيش والديبلوماسية الدولية. في ظل غياب أي منافسين سياسيين حقيقيين، سيتخذ شي جين بينغ بنفسه قرار تقاعده، بحسب الجدول الذي يناسبه. بعد إلغاء الحد الأقصى للولاية الرئاسية في العام 2018، يستطيع شي جين بينغ أن يحكم إلى مالانهاية إذا شاء. وحتى لو تنحى من مناصبه القيادية الرسمية، سيحافظ على سيطرته على الحزب الشيوعي الصيني وجيش التحرير الشعبي. وكلما طالت مدة بقائه في السلطة، ستصبح البنية السياسية الصينية أكثر شَبَهاً بشخصيته وأهدافه ونزواته وشبكة عملائه. في المقابل، بدأ شي جين بينغ يزداد أهمية للحفاظ على استقرار الصين السياسي مع كل يوم جديد يبقى فيه في السلطة. لكن يترافق تراكم نفوذه الشخصي مع كلفة باهظة على الصين.

لم يعيّن شي جين بينغ خَلَفاً له، ما يؤدي إلى التشكيك بمستقبل نظامٍ يزداد اتكالاً على قيادته. ولا يعرف عدد كبير من كبار المسؤولين في الحزب الحاكم خطط الرئيس الصيني الحقيقية على المدى الطويل، وقد التزموا الصمت حتى الآن بشأن مدة بقائه في السلطة. هل سيتقاعد خلال المؤتمر الحزبي العشرين في العام 2022، أم أنه سيتمسك بالسلطة إلى أجل غير مُسمّى؟ وإذا توفي فجأةً وهو لا يزال رئيس البلد، كما حصل مع ستالين في العام 1953، هل سيشهد الحزب انقساماً عميقاً نتيجة تهافت الخصوم على السلطة؟ وهل سيتمكن المراقبون الخارجيون من رصد مؤشرات الخلاف؟

هذه التساؤلات ليست مجرّد توقعات عابرة. في أحد الأيام، سيرحل شي جين بينغ من الساحة السياسية بطريقة ما. لكن من دون تحديد طريقة رحيله أو توقيت تنحيه أو هوية الرئيس البديل، قد تواجه الصين أزمة خلافة محتملة. في السنوات القليلة الماضية، أضعف شي جين بينغ المعايير الهشة المرتبطة بنقل السلطة وتقاسمها في الحزب الشيوعي الصيني. وعندما يحين وقت استبداله، وهو أمر حتمي، قد تترافق الفوضى في بكين مع اضطرابات تتجاوز الحدود الصينية.

عودة الدراما السياسية

غالباً ما تستخف الديموقراطيات المعاصرة بعمليات نقل السلطة السلمية والمنظّمة، لكنّ العمليات الانتقالية المضطربة هي مصدر للخلافات والفـــوضى حول العالم. وحتى الأنظمة الديموقراطية التي تطبّق إجراءات قانونية صارمة وتتكل على معايير راسخة لاستبدال الحكّام لا تكون محصّنة ضد العمليات الانتقالية الهشة. اتّضح هذا الواقع حديثاً حين حاول الرئيس الأميركــــي السابق دونالد ترامب الانقلاب على فوز جو بايدن في الانتخابات. في عدد كبير من الدول، تسمح قلة الضوابط القانونية والسياسية للحكام بالتمسك بالسلطة إلى أجل غير مُسمّى. وفي الأماكن التي تكون فيها الإجراءات القانونية أكثر قوة، يؤدي إصرار القادة على البقاء في السلطة إلى تهميش الخصوم السياسيين أو حتى اعتقالهم. قد ينجح الحكام المستبدون في إبطال العوامل التي تُهدد سلطتهم، لكن قد تُسبب محاولات حُكم الدول إلى مالانهاية أزمات خلافة أو تزيد التحديات على القيادة الرسمية، حتى أنها قد تطلق انقلابات أحياناً.

لكن تغيّر نمط انتقال السلطة في العقود الأخيرة. حين وصل شي جين بينغ إلى السلطة في أواخر العام 2012، بدا وكأن بكين اختارت نمطاً مستداماً ومتوقعاً وسلمياً لتناقل السلطة. حتى أن كبار الخبراء بشؤون الصين زعموا أن "الخلافة بحد ذاتها أصبحت جزءاً من أسس الحزب الحاكم". لكن نسف شي جين بينغ تلك الفرضيات مع اقتراب نهاية ولايته الرئاسية الثانية. خلال اجتماع "المؤتمر الشعبي الوطني" في ربيع العام 2018، فرض الرئيس تعديلاً دستورياً لإلغاء المهلة النهائية لعهده. كما أنه لم يعيّن مرشّحاً لاستلام منصبه من بعده، ولم يُلمِح شي جين بينغ ولا الحزب الشيوعي الصيني إلى حصول عملية انتقالية وشيكة. أعلنت وسائل إعلام يسيطر عليها الحزب الحاكم أن شي جين بينغ لا ينوي أن يحكم البلد طوال حياته، لكن لم يصدر أي تصريح رسمي حول مستقبله السياسي.

نهاية شي جين بينغ؟

قد يخالف الرئيس الصيني جميع التوقعات ويقرر تسليم السلطة خلال المؤتمر الحزبي العشرين في أواخر العام 2022. لكن من دون تحديد خَلَفه (يجب أن يكون مسؤولاً ذا مصداقية عالية وسبق واختبره الحزب الحاكم)، تبقى هذه النتيجة مستبعدة جداً. قد يُطرَح عدد من المرشّحين عبر ترقيتهم ومنحهم مناصب في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي في الحزب الحاكم، إذ ترمز هذه المناصب إلى ذروة النفوذ السياسي في الصين. ثم يستطيع هؤلاء الأفراد أن يمضوا سنوات عدة وهم يتنقلون بين مناصب عليا لاكتساب خبرة واسعة في مجال الحُكم وبناء مصداقيتهم داخل النظام القائم. لكن حتى لو عيّن شي جين بينغ خَلَفاً محتملاً له أو اقترح عدداً من المرشحين الآخرين في العام 2022 تمهيداً لتقاعده الرسمي خلال المؤتمر الحزبي اللاحق، لا يعني ذلك بالضرورة نهاية سيطرته غير الرسمية على البلد. هو قادر على متابعة فرض نفوذه من وراء الكواليس، كما فعل دنغ شياو بينغ وجيانغ زيمين بعد انتهاء عهدهما. تتماشى هذه النزعة الشائعة في الصين مع نمط تاريخي عام: نادراً ما يتنازل الحكام الأقوياء عن السلطة، فهم يميلون إلى التمسك بنفوذهم في معظم الحالات. حتى الآن، تمنع هيمنة شي جين بينغ الحكومات الخارجية من بناء علاقات مع أي خلفاء محتملين. وإذا لم يحدد الرئيس الصيني الراهن خياراته بكل وضوح في العام 2022، قد يؤكد هذا التأخير على تراجع مكانة أي مرشّح محتمل لمنصب الزعيم الصيني المقبل لدرجة ألا يلاحظه المراقبون الخارجيون.

قد تكون سيطرة شي جين بينغ على السلطة مبهرة، لكن يتكل أقوى القادة دوماً على خليط من اللاعبين المؤثرين والمصالح. يكون هذا الدعم مشروطاً وقد يتلاشى حين تتغير الظروف الداخلية والدولية. لا تعرف أي جهات خارجية طبيعة الصفقة القائمة بين شي جين بينغ وأعضاء النخبة السياسية والاقتصادية والعسكرية. لكن من المنطقي أن يؤدي أي تباطؤ اقتصادي كبير أو الفشل المتكرر في التعامل مع أزمات السياسة الخارجية إلى تصعيب مهام شي جين بينغ المرتبطة بإقامة التوازن المناسب بين المصالح المتضاربة وإضعاف سيطرته. لا مفر من أن يصل أي تحالف إلى نقطة انهيار في مرحلة معينة. لهذا السبب تحديداً، يتجاوب القادة مع محاولات الانقلاب بصرامة شديدة. هم يريدون ردع أي منافسين محتملين. في هذا السياق، أطلق رئيس غامبيا، يحيى جامع، التحذير التالي بعد محاولة الانقلاب في العام 2014: "على كل من يخطط لمهاجمة هذا البلد أن يستعد لما ينتظره، فهو سيموت حتماً".

لن تكون الإطاحة بأي زعيم حالي مهمة سهلة بأي شكل، لا سيما إذا كان ذلك الزعيم يفرض كامل سيطرته على دولة لينينية يحكم فيها حزب واحد. يواجه قائد الانقلاب الطموح عوائق مخيفة، بدءاً من الحاجة إلى حصد الدعم من أعضاء أساسيين في الأوساط البيروقراطية العسكرية والأمنية من دون إنذار الحاكم والجهاز الأمني المحيط به. ونظراً إلى القدرات التكنولوجية التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية التي يديرها الحزب الشيوعي الصيني ويسيطر عليها شي جين بينغ، ستترافق أي جهود مماثلة مع مخاطر مثل انشقاق المتآمرين الأصليين لأنهم قد يغيرون رأيهم في المراحل اللاحقة. يواجه الرئيس الصيني الراهن عدداً من الأعداء في الحزب، لكن لا يمكن تجاوز العوائق التي تحول ضد توحيد الصفوف ضده. ما لم تحصل أزمة كبرى في النظام، يبقى احتمال أن ينفذ خصوم شي جين بينغ أي نوع من الانقلاب ضئيلاً.

لكن قد تتراجع مدة عهد شي جين بينغ بسبب وفاته أو عجزه عن متابعة مهامه، بغض النظر عن التوقيت الذي اختاره لإنهاء ولايته. يبلغ الرئيس الصيني اليوم 68 عاماً، وهو يدخّن منذ فترة طويلة ووزنه زائد ويتولى عملاً مشحوناً بالضغوط. وتذكر وسائل الإعلام الحكومية أنه "يستمتع حين يتعب". ما من مؤشرات علنية على تدهور صحته، لكنه لن يكون خالداً. الآن وقد أضعف هذا الأخير معايير الخلافة في الصين، قد يُسبب غيابه فراغاً في السلطة ويطلق خلافاً داخلياً في أعلى مراتب الحزب الشيوعي الصيني. قد ينقسم أعضاء التحالف الداعم لشي جين بينغ إلى مجموعات متخاصمة، فتدعم كل واحدة منها المرشّح الذي تختاره. وقد تحاول الفئات التي تعرّضت للتهميش أو العقاب في عهد شي جين بينغ أن تستفيد من هذه الفرصة النادرة لاسترجاع السلطة. وحتى لو لم يمت الرئيس الصيني بل أصبح عاجزاً بسبب جلطة دماغية أو نوبة قلبية أو أي مشكلة صحية خطيرة أخرى، ستدخل الصين في حالة من الجمود السياسي. في هذه الظروف، لا مفر من أن يتخبط مناصرو النظام ومعارضوه معاً سعياً إلى إنشاء تحالفات جديدة للتصدي لتعافي شي جين بينغ أو منع انتهاء عهده. سيترافق هذا الوضع مع عواقب غير متوقعة على مستوى السياسة المحلية والخارجية في آن.

قد تحصل سيناريوات محتملة أخرى طبعاً. في المقام الأول، قد يختار شي جين بينغ التقاعد في العام 2035: إنها مرحلة وسطية بين الذكرى المئوية لنشوء الحزب الشيوعي الصيني هذه السنة وذكرى تأسيس جمهورية الصين الشعبية في العام 2049. لكن بغض النظر عن توقيت رحيله من السلطة، يطرح غياب الخطط الواضحة أسئلة حتمية حول قدرة الحزب على نقل السلطة بطريقة سلمية ومتوقعة. خلال العقود التي تلت وفاة ماو تسي تونغ في العام 1976، بدا وكأن النظام السياسي الصيني يتجه إلى الاستقرار تدريجاً رغم الاضطرابات المتقطعة في أعلى مراتب السلطة. لكن يبدو مستقبل الصين السياسي اليوم غامضاً بامتياز. لا يناقش المسؤولون الصينيون مسألة الخلافة علناً، لكنهم لا يستطيعون تجاهلها أيضاً. باختصار، تحتاج هذه المشكلة إلى حل عاجلاً أو آجلاً.


MISS 3