عيسى مخلوف

الفنّ والمال: زواج المتعة والفائدة

7 آب 2021

02 : 00

وباء كورونا الذي ترك أثره على السوق الفنّية أيضاً، وأدّى إلى إلغاء المعارض الدوليّة للفنّ المعاصر، الواحد تلوَ الآخر، لم يمنع العاملين في هذا المجال من الاستثمار في الفنّ الرقمي، في موازاة صعود العملة الرقميّة وانتشارها بشكل متزايد. ومع العودة التدريجيّة إلى صالات العرض التي تفتح أبوابها من جديد، عاد الحديث إلى العلاقة التي تجمع بين الفنّ والمال. ولقد صدرت حول هذا الموضوع في الغرب بشكل عامّ، وخصوصاً في فرنسا، كتب ودراسات عدّة تمحورت حول معنى الفنّ اليوم وتحويله بضاعةً كسائر البضائع.

هذا التحوُّل في النظرة إلى الفنّ بدأ منذ ثمانينيّات القرن الماضي وبلغ أوجه في العقود اللاحقة مع انتعاش البورصة الفنّية وتحقيق ثروات طائلة بلغت مليارات الدولارات. ساهمت في هذه "الطفرة" دُور المزادات العلنيّة وغاليريهات ومتاحف، وكذلك معارض دوليّة تجاوزت المئتي معرض في العالم بعد أن كانت حتّى العام 2005 لا تتجاوز السّبعين. وفي حين كان ثمّة أقلّ من ثمانين صالة عرض في نيويورك مطلع السّبعينيّات، ارتفع العدد ليبلغ الألف صالة تقريبًا. كما أنّ السّوق الفنّيّة لم تعد تنحصر في مراكز أوروبية وأميركية، بل انتشرت في كلّ مكان، شرقًا وغربًا. صار الفنّ خاضعًا لأحكام التّعامل في الأسواق الماليّة، ولعمليّة العرض والطلب من جهة، والتّخمين والمضاربة من جهة ثانية، وأصبح الحديث عن السّوق الفنّيّة، الّتي حقّقت ثروات هي الأعلى في تاريخها، أشبه بالحديث عن تجارة المجوهرات والعقارات والسّيّارات.

لقد أصبح الفنّ أحد المكوّنات الاقتصاديّة للدول المتقدّمة، وهذا ما دفع ماركات عالميّة معروفة بإنتاجها الموادّ الاستهلاكيّة الباذخة، مثل "كريستيان ديور" أو "لْوي فْويتُون"، إلى التعامل مع فنّانين مقاولين من أمثال الفنان الأميركي جيف كونز الذي صمّم حقائب يد طُبعت عليها أعمال فنّية معروفة لفنانين كلاسيكيين كبار. الغاليريهات الّتي تتعامل مع هذا النّوع من الفنّانين العالميين، تتحرّك هي أيضًا انطلاقًا من سياسة إعلان وتسويق خارقة تهدف إلى لفت الانتباه وتأكيد وجودها باستمرار من خلال توظيف الإعلام وتنظيم حفلات استعراض حقيقيّة. وهي تتعاطى مع الأعمال الفنّيّة كأنّها منتجات جديدة فتعتمد أسلوب الإثارة والتّشويق إلى أقصى حدّ.

يشارك في تشغيل ظاهرة الفنّ هذه هواة جمع الأعمال الفنّيّة والمتاجرون بالفنّ وجيش من المتواطئين، إضافة إلى عدد متزايد من الفنّانين أنفسهم، ويأتي في مقدّمهم، بالإضافة إلى جيف كونز الذي أتينا على ذكره، الفنان البريطاني داميان هيرست والياباني تاكاشي موراكامي. يمتلك هؤلاء محترفات فنّيّة يعمل فيها عشرات الموظّفين وتتوزّع أعمالهم في القارّات الخمس، وهم يتمتّعون بقدرات مؤكّدة في مجال التّسويق والتّرويج والتّجارة. ولقد بيعت بعض أعمالهم بأسعار تفوّقت على لوحات المعلّمين الكبار من أمثال الغريكو ودولاكروا وفان غوغ.

الفنّان الأميركي إندي وارهول كان رائد هذا التّوجّه الجديد في الفنّ وهو أوّل من أدخل المال، وبهذه الطريقة، في المعادلة، وأوّل من وعى أصول الانتشار الكونيّ في زمن العولمة. هو القائل: "أن تنجح في عالم الأعمال هو الفنّ الأكثر إبهارًا. أن تجني المال هو عمل فنّيّ قائم في ذاته. العمل فنّ أيضًا وعقد الصّفقات أرقى أنواع الفنون"؟ وهذا ما ردّده الفنان البريطاني داميان هيرست، مضيفاً: "المال مسألة مهمّة في عالمنا اليوم. توازي أهمّيّته أهمّيّة الحبّ، بل قد تتعدّاه". منحوتة الجمجمة الّتي صمّمها هذا الفنّان ورصّعها بالماس بلغت قيمتها أكثر من مئة مليون دولار.

ولئن كان هذا الواقع لا يختصر المشهد الفنّي الراهن بأكمله، فإنّه يؤكّد أنّ الابتذال بات يُنظَر إليه بصفته أحد الفنون الجميلة وقيمة قائمة في ذاتها، وأنّ الحلبة المفتوحة أمامنا يختلط فيها التّهريج في الفنّ بالمال. صناعة كاملة ما كانت لتستقيم لولا أثرياء يبحثون، هم أيضًا، عن صيانة المال والشّهرة. قلّة من هؤلاء تمارس هذه الهواية وتبقى في الظّلّ. ثمّة مدارس فنّيّة اليوم تشهد سباقًا نحو تحقيق المشاريع الأكثر مردوديّة مادّية ومجاراة الأهواء الآنيّة السّائدة وإنتاج فنّ قابل للبيع.

طالما ارتبط الفنّ بالمال والسلطة عبر التاريخ، لكنّها المرّة الأولى التي يستولي فيها المال على كلّ شيء، ويكاد يلتهم كلّ شيء.