أنشال فوهرا

هجرة أدمغة "قاتلة" في لبنان

12 آب 2021

المصدر: Foreign Policy

02 : 01

يخطط جان أنطون، صاحب مقهى في حي متنوع وميسور من بيروت، لمغادرة لبنان إلى أوروبا. في آخر سنتين، أدت الأزمة الاقتصادية التي تجتاح البلد إلى استنزاف ممتلكات معظم اللبنانيين وانخفاض عدد زبائن المقهى إلى النصف. انهارت العملة المحلية وارتفعت أسعار السلع الأساسية بدرجة قياسية، ما أدى إلى زيادة نفقاته بعشرة أضعاف. نتيجةً لذلك، تراجعت عائداته بنسبة 80%، مع أنه زاد سعر كوب القهوة والحلوى للتعويض عن ارتفاع التكاليف. يقول أنطون: "بحلول نهاية هذه السنة، أو ربما قبل ذلك، سنرحل من هنا. لن يتحسن الوضع ويستحيل أن نعيش حياة لائقة في هذا البلد". هو مضطر لإغلاق متجره في فترة بعد الظهر من كل يوم لساعات لأن صاحب المولدات في منطقته يطفئ المولّد. الدولة مفلسة وعاجزة عن شراء الوقود بالكميات المطلوبة، وقد أدى هذا الشح إلى نقص حاد في مصادر الطاقة. يدفع أنطون مبلغاً شهرياً هائلاً لأصحاب المولدات في الحي، لكن لا أحد يضمن تأمين الكهرباء على مر اليوم.

أنطون ليس الشخص الوحيد الذي يواجه هذا الوضع. تجد جميع المتاجر في ذلك الشارع الذي كان يعجّ بالسياح سابقاً صعوبة في الصمود، وقد قرر الكثيرون إغلاق متاجرهم فيما يفكر آخرون بكيفية الرحيل. كذلك، قرر معظم زبائن أنطون المنتمين إلى الطبقة العليا أو الوسطى (منهم مصممو أزياء، ومهندسون، ومعلنون) مغادرة البلد إلى قبرص أو أي مكان آخر من أوروبا خلال الأشهر القليلة المقبلة. هم يحبون مواقع لبنان وجباله وشواطئه، لكنهم لا يحبذون انقطاع التيار الكهربائي أو تلقيهم جزءاً بسيطاً من رواتبهم السابقة.

يكون المهنيون الذين يقدمون خدمات أساسية، مثل الأطباء والممرضين والمهندسين والأكاديميين ورجال الأعمال، أول من يقرر الرحيل في ظروف مماثلة. يعتبر خبراء الاقتصاد هذه النزعات مقلقة، مع أن البيانات المتاحة تبقى ضئيلة. في تقييم صدر في كانون الأول 2020، حذر البنك الدولي من تحوّل هجرة الأدمغة إلى "خيار يائس وأكثر شيوعاً" في لبنان، إذ تُعتبر هذه الأزمة الاقتصادية من أسوأ ثلاث أزمات شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. أعلن البنك الدولي في شهر حزيران أن "تدهور الخدمات الأساسية بدرجة فائقة سيترافق مع تداعيات كبرى على المدى الطويل"، بما في ذلك الهجرة الجماعية: "سيكون التعافي من الأضرار الدائمة على مستوى الرأسمال البشري بالغ الصعوبة. يمكن اعتبار هذا البُعد من الأزمة اللبنانية السبب الذي يجعل وضع لبنان فريداً من نوعه مقارنةً بالأزمات العالمية الأخرى".

ساد غضب عارم في البداية، ثم سيطر اليأس على الجميع، ثم حان وقت الهرب. في آخر سنتين، شهد اللبنانيون على انهيار اقتصادهم المتواصل وتفجير مرفأ بيروت الذي أثبت قلة كفاءة النخبة الحاكمة وإهمالها الإجرامي. هم لا يتوقعون تحقيق العدالة أو تغيّر الوضع في عهد أي حكومة تنتجها الطبقة السياسية نفسها. قرر كل من يستطيع إيجاد وظيفة في بلد آخر أو الانتقال للعيش مع أصدقاء أو أفراد عائلة آخرين في الخارج الرحيل. وينتظر عدد كبير من الناس الفرصة المناسبة لاتخاذ الخطوة نفسها.

يظن الخبراء أن الموجة الراهنة من هجرة الأدمغة ستعطي أثراً دائماً في بلدٍ يتعامل مع أزمات فائقة. سيؤدي هرب الرأسمال البشري إلى تدهور الاقتصاد المنهار أصلاً وإعاقة تعافيه.

لكن ارتفع منسوب اليأس لدرجة أن يتمنى 77% من الشباب اللبناني الرحيل وفق أحد الاستطلاعات. في العالم العربي، يحتل الشباب اللبناني المرتبة الأولى على لائحة الراغبين في الهرب من بلدهم، ويتفوقون بذلك على نظرائهم في سوريا الغارقة في الحرب (54%) والشباب الفلسطيني الخاضع للاحتلال الإسرائيلي (58%).

بناءً على بعض التقديرات، سبق ورحل 20% من الأطباء اللبنانيين أو يخططون للرحيل منذ أن اجتاحت الأزمة الاقتصادية البلد في العام 2019، وقد أقفلت مئات الصيدليات أبوابها وأصبح الصيادلة عاطلين عن العمل. كذلك، تستمر هجرة العاملين في قطاع الرعاية الصحية، مثل الممرضين، وقد توجّه المئات منهم إلى دول الخليج. تقول المعالِجة الفيزيائية ريتا حويك إنها شهدت على عشرات الاستقالات في المستشفى الذي تعمل فيه في مدينة طرابلس الشمالية: "هم يذهبون إلى المملكة العربية السعودية، أو قطر، أو كندا، أو أي مكان آخر. يجب أن يرسلوا المال إلى أهاليهم في لبنان".

تفيد التقارير أيضاً بأن ستة مهندسين يطلبون رسائل توصية من أرباب عملهم يومياً لتقديم طلبات توظيف خارج البلد، وتذكر تقارير "معهد الشؤون العالمية الحالية" أن أكثر من 1500 موظف في الجامعة الأميركية في بيروت التي تشمل مركزاً طبياً تابعاً لها رحلوا في آخر سنتين. كانت شارلوت كرم، أستاذة مشارِكة في الجامعة تعمل في مجال تمكين المرأة في المنطقة، واحدة منهم. وفق تقديراتها الخاصة، رحل 40% من زملائها، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد خلال السنة الراهنة. هي قررت الرحيل من لبنان رغم حبها له بسبب خليط من المشاكل الشخصية والمهنية والمالية التي سبّبتها الأزمة الاقتصادية. هي تتساءل: "كيف يمكن أن أتابع العمل في بلد منهار؟ بعد تخفيض راتبي، أرغب طبعاً في عيش حياة كريمة. يتعلق سبب آخر باضطرار زوجي لإغلاق عمله بسبب الأزمة الاقتصادية".

على صعيد آخر، ارتفعت أقساط المدارس والجامعات بدرجة قياسية تزامناً مع انكماش الاقتصاد بنسبة هائلة وصلت إلى 20% في العام 2020، ومن المتوقع أن ينكمش بنسبة 9.5% هذه السنة وفق تقديرات البنك الدولي. كذلك تتابع نسبة البطالة ارتفاعها، ولم يعد معظم الشباب يجد مبرراً لمتابعة العيش في بلدٍ لن يعثروا فيه على أي وظيفة. جنى هي طالبة جامعية لبنانية انتقلت إلى نيويورك في السنة الماضية لكنها عادت إلى بلدها للمشاركة في الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت. قالت جنى وهي تسير إلى جانب آلاف المحتجين الآخرين في 4 آب الماضي: "لا مستقبل لنا هنا. لهذا السبب حوّلتُ ملفي من الجامعة الأميركية في بيروت إلى إحدى جامعات نيويورك".

صرّح مصدران دبلوماسيان في بعثتَين أوروبيتَين في لبنان لصحيفة "فورين بوليسي" بأنهما شهدا على زيادة طلبات التأشيرة من اللبنانيين الراغبين في الانتقال إلى البلدَين اللذين يمثلانهما. يقول مصدر دبلوماسي ألماني: "يلجأ إلينا أبناء الطبقات الوسطى بأعداد كبيرة للاستفسار عن طرق إيجاد الوظائف ونيل تأشيرة عمل والهجرة بطريقة شرعية بشكل عام. معظمهم من المهندسين". يضيف مصدر دبلوماسي فرنسي: "نحن نقدم المساعدة إلى المدارس والمستشفيات ومؤسسات أخرى كي يتمكن اللبنانيون من متابعة عملهم هنا ويكون لهم مستقبل داخل لبنان".

من بين مختلف المِهَن، يكنّ الناس أعلى درجات الكره للمصرفيين لأن البنوك منعت اللبنانيين من سحب مدخراتهم وفرضت "هيركات" غير رسمي على صغار المودعين. يفضّل الكثيرون تجنب المجازفات. يقول خالد زيدان، وهو مصرفي سابق، إن عدداً كبيراً من الموظفين يخطط لمغادرة البلد، لكنّ هذه العملية أصعب بكثير على الرؤساء والمدراء التنفيذيين، مع أن البعض يرغب في ترك كل شيء والرحيل: "بدأت وصمة العار التي تطبع عمل المصرفيين تعطي عواقب واضحة. أتوقع أن يغادر 50% من الموظفين على الأقل هذا القطاع مقارنةً بالعدد الإجمالي المُسجّل قبل 17 تشرين الأول 2019، وقد بدأ الموظفون يرحلون أصلاً أو يخططون للرحيل بسبب الضغوط المالية التي يعيشونها".

يعجّ تاريخ لبنان القصير كبلد مستقل بالصراعات والأزمات التي أجبرت الناس على الهرب. هاجرت أجيال كاملة من اللبنانيين للاستقرار في أفريقيا والأميركيتين وأوروبا. حصلت أكبر هجرة جماعية خلال الحرب الأهلية التي امتدت على 15 سنة. وحين انتهت تلك الحرب في العام 1990، استرجع عدد كبير من اللبنانيين الأمل وقرر العودة، لكن هرب الكثيرون مجدداً خلال الحرب مع إسرائيل في العام 2006. نتيجةً لذلك، يساوي حجم الشتات اليوم حوالى ثلاثة أضعاف سكان لبنان (5 ملايين نسمة).

في آخر عقد ونصف، بقيت أنماط الهجرة ثابتة نسبياً. لكن تغيّر الوضع منذ سنتين، حين كشف المحتجون المخطط الهش الذي بنى عليه مصرف لبنان اقتصاد البلد وسرعان ما انهار كل شيء.

لا يهرب الجيل الراهن من اللبنانيين من القنابل، كما فعل أسلافهم أو جيرانهم السوريون في السنوات الأخيرة، لكنهم يعتبرون الضغوط الاقتصادية غامرة. يتذكر محمد شحادة، وهو أحد المحتجين في بيروت، أعمال العنف خلال الحرب الأهلية لكنه يقول إن الوضع لم يكن بهذه الصعوبة يوماً من الناحية الاقتصادية: "كنا نملك الوقود خلال الحرب الأهلية مثلاً. أصبحت هذه المادة نادرة اليوم لدرجة ألا نضمن الحصول عليها حتى لو وقفنا في صفوف طويلة لساعات". يعترف شحادة بأن معظم أصدقائه رحلوا، لكنه يريد البقاء والنضال من أجل بلده ويتساءل: "من سيبقى هنا إذا رحلنا؟ لمن سنترك البلد"؟

هل نرحل أو لا نرحل؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه المهنيون اللبنانيون، إذ يجد معظمهم صعوبة في العيش برواتبهم المتناقصة. في غضون ذلك، يُفترض أن تقلق بقية دول العالم في المقام الأول من احتمال أن تلجأ أكثر الفئات هشاشة في المجتمع اللبناني إلى المهربين لركوب القوارب باتجاه اليونان. في السنة الماضية، حاول مركب مليء بعشرات اللبنانيين والسوريين الوصول إلى قبرص لكن تخلى عنهم المهرّبون بعد كشف أمرهم. توفي طفل بين ذراعي والدته بعد أيام بلا طعام ولا مياه.

اليوم، يعيش أكثر من نصف اللبنانيين تحت خط الفقر. يدرك المجتمع الدولي عواقب هذا الوضع على أوروبا. في الأسبوع الماضي، شارك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في جمع مساعدات إنسانية بقيمة 370 مليون دولار خلال مؤتمر دولي مُخصّص لمساعدة الأكثر حرماناً في لبنان، ويهدف جزء من هذه المبادرة إلى تجنب الاضطرابات الاجتماعية في البلد ومنع تحوّل اللبنانيين إلى لاجئين يطرحون تحدياً جديداً على الاتحاد الأوروبي.