محمد علي مقلد

مغدوشة أم طورا بورا؟

4 أيلول 2021

02 : 00

رأت التعليقات السياسية والصحافية في حادثة مغدوشة حلقة من انفجار التوتر في علاقات أمل والتيار الوطني الحر، مستندة إلى حوار شتائمي عبرت عنه لغة البلطجي والبرغوث، أو إلى حوار زقاقي حصل بين ممثلي الفريقين. غير أن وضع الحادثة في سياق مختلف قد يرى فيها واحدة من آخر حلقات الانهيار، ومن علاماتها أن زعران "الكومونات" أو العاميات يصادرون دور القادة ويستدرجونهم من قصور القرارات إلى أزقة التشبيح.

ذات عام من سبعينات القرن الماضي وقف الشيخ محمود فرحات من عربصاليم واعظاً أهل بلدته والحاضرين من القرى المجاورة، داعياً إياهم إلى الاقتداء بمغدوشة قرية العلم والأناقة والجمال والنظافة وأصالة الارتباط بالأرض. ذلك أن أهاليها كانوا يقيمون فيها ولا تمر عليهم كما على سائر القرى اللبنانية رحلات الشتاء والصيف إلى العاصمة بيروت، وكان لا يطيب لهم المقام إلا في بيوت شيدوها بين الغاردينيا والياسمين وكروم الشمس.

بعد عقد من السنوات قرر النظام السوري استئصال القرار الفلسطيني المستقل والوجود العرفاتي من كل المخيمات، فتم تدمير صبرا وشاتيلا، فيما رأى الفلسطينيون وحلفاؤهم أن خير وسيلة للدفاع عن مخيم عين الحلوة مباغتة حركة أمل المتمركزة في مغدوشة. وكان ما كان من نتائج معركة استمرّت أسابيع سيطرت في نهايتها ميليشيات حركة أمل على البلدة، وتم تهجير أهلها والسطو على محتويات بيوتها، حتى الأسلاك الكهربائية سحبت من أنابيبها داخل الجدران.

حركة أمل في تلك الأيام كانت أداة تنفيذية لقرارين سوريين، أحدهما ضد أبو عمار في المخيمات، وذهبت ضحيته مغدوشة والثاني ضد "حزب الله" وذهبت ضحيته جرجوع.

في أقل من عامين تمكن مهجرو مغدوشة من العودة، وذلك خلافاً لأصول التهجير المعتادة. عُدّ ذلك مأثرة من مآثر الحرب، فعمّت الاحتفالات ومهرجانات التكريم، وعلى رأس المحتفلين أدوات النظام السوري بالذات، فتولى اتحاد الكتاب اللبنانيين بهئيته الإدارية الجديدة ذات الهوى السوري، المنتخبة على أنقاض تاريخ يساري للاتحاد، تنظيم احتفال العودة واستقبال العائدين.

كنت بين الحاضرين بمعية سيد الشيعة العلمانيين، السيد محمد حسن الأمين، الذي غادر قبل نهاية الاحتفال. تحدث حلمي جابر ممثل حزب البعث عن التعايش الإسلامي المسيحي في الجنوب ولم يجد دليلاً على ذلك غير اهتمام الشيعة في النبطية وجباع بدفن الموتى من المسيحيين. ثم اعتلى المنبر رسول المحبة في منطقة صيدا الأب سليم غزال، وراح يكيل المدائح بـ"سماحة الإسلام" الذي سمح لأهالي مغدوشة بالعودة السريعة إلى قريتهم المنكوبة.

استفزني كلام الأب الجليل الذي تجمعني به علاقات صداقة وطيدة وتعاون على تعزيز المفاهيم العلمانية ونشرها، وهي علاقات تعود إلى سنوات مضت، وخصوصاً بعد حادثة إحراق الكنائس في مدينة صيدا، التي كان بطلها أحد مثيري الفتن من الأدوات الرخيصة، الذي لم يبطئ في أعلان ولائه لقوات الاحتلال في أول أيام الاجتياح الاسرائيلي.

طلبت الكلام من خارج البرنامج وقلت: لو كانت المسيحية على دين أبونا سليم لكنت واحداً من رعاياه من دون تردد، ولو كان الإسلام على دين السيد محمد حسن الأمين، لكنت مسلماً لا بتذكرة الهوية فحسب بل بالانتماء إلى عادات وتقاليد تعلمتها من قريتي المختلطة لا من طقوس العبادة التي تحولت بقوة الجهالة الجهلاء إلى تفاهات. لكنني حين أراهما معاً، وهما من أعز أصدقائي، لا تحضرني صورتهما العلمانية بل صورة النفاق اللبناني والتكاذب المتبادل. اعذرني يا أبونا إن قسوت، فمآثر الشيعة لا تختصرها طقوس دفن الموتى ولا الموافقة على عودة المهجرين، وإذا كانت سماحة الإسلام هي التي أعادتهم فمن الذي هجرهم ؟ في المساء دعاني الأب سليم ليطمئنني لأنه، كرجل دين، لا يمكنه أن يقول غير الذي قاله، وإلى أنه كان مرتاحاً لما سمعه مني ومن صبية من آل قسطنطين تحدثت باسم أهالي القرية.

لا معركة الثمانينات في مغدوشة ولا حادثة الأمس صراع بين مسلم ومسيحي. في الثمانينات قرار سوري تولت تنفيذه أدوات لبنانية، وحادثة الأمس ذكرتني بعاميات القرى والمدن الفرنسية بعد الثورة وبعد انهيار الدولة هناك، حيث صار المتنفذون المحليون من شبيحة القرى وزعران الأحياء هم أصحاب القرار. حصل ما يشبه ذلك في لبنان بعد أن انتهك الحاكم الدستور والقوانين وأباح لزعرانه أن يتطاولوا لا على خصومه فحسب بل على حلفائه وعلى أتباعه أيضاً. هذا ما يحصل في كل القرى، بين أهل الدين الواحد والطائفة الواحدة.

لا لغة النزاع الطائفي ولا لغة البلطجي والبرغوت تصنعان حلاً. يبدأ الحل بتقيد رئيس الجمهورية، بصفته ممثلاً للتيار الوطني الحر، ورئيس البرلمان، بصفته ممثلاً لحركة أمل في السلطة السياسية، باحترام الدستور، ولا سيما مبدأ الفصل بين السلطات، إذ إن تطبيق القانون منوط بالسلطة القضائية وحدها، لا برئيس يتخلى عن مهماته الرئاسية ويتصرف كقائد عسكري على رأس المجلس الأعلى للدفاع، ولا برئيس يقدم التعليمات للقضاء حاملاً مطرقة رئيس مجلس القضاء الأعلى بدل مطرقة رئيس البرلمان. أهل القضاء أدرى بشعابه والقضاء لا يحتاج لمن يعلمه وليس أدنى وأقل أهمية من سلطة التشريع.

لا علاج لكل أزمات الوطن كبيرها وصغيرها بغير العودة إلى سيادة الدولة على كل القرى والدساكر بقوة الدستور والقانون.


MISS 3