شربل داغر

دانتي المعلم الإنساني

27 أيلول 2021

02 : 00

بادرتْ دار نشر هولندية، في السنة الحالية، إلى شطب مقاطع من "الكوميديا الإلهية" لدانتي، وإلى حذف اسم: محمد منها. صدرت هذه الترجمة في الذكرى السبعمئة لميلاد الاديب الشهير دانتي (1265-1321)، ولكتابه الذائع الصيت، الذي تعود مخطوطاته الأولى إلى الأعوام الواقعة بين 1307-1321.

لهذا الكتاب قيمة لافتة، إذ إنه التعبير الأقوى والأجلى عن بلوغ لغة عامية (عامية فلورنسة في توسكانة) نصاب الأدب، بل الشعر الرفيع.

وهو، في ذلك، الإيذان بنشأة لغة إيطالية، والانصراف عن اللغة اللاتينية، لكي تبقى لغة الأناجيل والطقوس الدينية والجدل اللاهوتي.

وسببُ حديثي هذا يعود إلى النقاش المفتوح (في النقد الاوروبي، واستعادته في النقد العربي)، منذ أكثر من مئة سنة، حول تأثر الكتاب الايطالي بـ"رسالة الغفران" للمعري، ثم (بتشديد أكبر) بكتاب "المعراج"، غير المعروف المؤلف.

لن أدقق، في كلامي المقتضب هذا، في شأن التأثر، حيث لا يوجد أي أثر تاريخي محقق سوى الكلام عن وصول كتاب المعراج إلى قراء اوروبيين، من دون اي دليل على أن دانتي اطلع عليه.

أما الادلة عن أن الرحلة الى العالم الآخر قائمة في أدب كل من الثقافتين، فهي كثيرة.

فمن يعد إلى عمل المعري، يجد ان له سوابق في الكتابة عن الغيب في الكتابة الإسلامية بالعربية، بين الوعاظ والمتصوفة. وسيتحقق من أن حديثه - السردي الخفيف - عن الجنة، وما يجري فيها، يبتدئ من القرآن، ويتوسع بعض الشيء فيه، وابتداء منه.

أما عمل دانتي، الذي اشتهر خصوصاً بحديثه عما يجري في جهنم، فيستند إلى ثقافة دينية اوروبية روسية، وفيها سِيَر معروفة عمن عاد من عالم ما بعد الموت، وما جرى له فيه.

إلا أن الأميز في عالم دانتي- وهو ما يعطيه صفة الحداثة المبكرة- فهو انه شعرٌ يَصدر عن كاتب في فرديته، إذ يتدبر لنفسه رحلة بين السماء والمطهر والجحيم بصحبة دليل في الرحلة. فيكتب عما يرتئيه، ويعتقد به، ويتمايز به عن غيره.

بل يمكن القول إن عمل دانتي اشبه بخشبة مسرحية يُقيمها بنفسه، ويحاسب ويعاقب فوقها من يشاء، ويُصدر الأحكام في حقهم. فيُقيم - من يشاء - في النعيم، ويُسقط - من يشاء - في الجحيم.

وهو ما لن يتورع عن فعله، بعده، عدد من المصورين الإيطاليين في "عصر النهضة" في جدرانياتهم الفنية العملاقة...

عملُ دانتي بارقة أولى عما يمكن أن يكون عليه الأدب بتصرف الإنسان- حتى لو أخطأ. وعما يمكن أن يكون عليه الإنسان، ولو ملفوفاً بأوراق الكتب القديمة.


MISS 3