راين بيرغ

ركود ديموقراطي في أميركا اللاتينية

15 تشرين الأول 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

تعرّضت الديموقراطية الأميركية لضربة موجعة في 11 أيلول 2001، لكنها حقّقت انتصاراً مدوّياً في نصف الأرض الغربي خلال اليوم نفسه. بعد هجوم 11 أيلول، تعاونت الدول الأعضاء في "منظمة الدول الأميركية" التي تشمل جميع بلدان الأميركيتَين باستثناء كوبا للتوقيع على "الميثاق الديموقراطي للبلدان الأميركية"، وهو التزام مشترك وغير مسبوق لتقوية الديموقراطية وحماية حقوق الإنسان في أنحاء المنطقة.

بعد مرور عشرين سنة على اعتداءات 11 ايلول، لم يعد وضع الديموقراطية في الأميركيتَين يعكس أجواء التفاؤل التي شهدها العام 2001 أو المبادئ السامية التي يعبّر عنها ذلك الميثاق، بل ترسّخ شكل من التعب الديموقراطي، إذ يبلغ دعم الديموقراطية أدنى مستوياته تاريخياً في أجزاء عدة من المنطقة. كذلك، شهدت السنوات القليلة الماضية عودة اليساريين المعادين للديموقراطية والشعبويين اليمينيين في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وبدأت الديموقراطيات المتبقية والسليمة نسبياً تتعثر بدل أن تزدهر.

يدخل عدد مقلق من الدول في الأميركيتين اليوم في خانة "الأنظمة الهجينة"، ما يعني أنها تحتفظ بشكلٍ من الديموقراطية ظاهرياً لكنها تفتقر إليها في العمق. أكثر ما يثير القلق هو أن تشمل هذه المنطقة البلدَين الوحيديَن اللذين تحوّلا من ديموقراطيات تمثيلية فاعلة إلى أنظمة دكتاتورية شاملة في التاريخ الحديث: نيكاراغوا وفنزويلا. لكن ينطبق هذا الفشل أيضاً على مختلف الديموقراطيات في الأميركيتَين وعلى "منظمة الدول الأميركية" بحد ذاتها.

تسلّل الاستبداد إلى المنطقة

تتحمّل الولايات المتحدة جزءاً من اللوم على هذا التراجع الديموقراطي، فقد استخفّت بقوة الشعبوية وجذورها التاريخية في أنحاء أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبـــي، وارتكبت أخطاءً كبرى في خضم مساعيها لدعم الديموقراطية في المنطقة. بالغت واشنطن في تشديدها على أهمية الانتخابات المنتظمة وتجاهلت في المقابل ضرورة إنشاء المؤسسات الديموقراطية الأساسية لدعم تلك الانتخابات وتنفيذ الخيارات السياسية التي تعكسها. بعبارة أخرى، ظنّت واشنطن أن بناء ثقافة الانتخابات التنافسية سيكون كافياً لتقوية الديموقراطيات. طالما تحصل الانتخابات في موعدها المحدد، عمد المسؤولون الأميركيون إلى تجاهل الديناميات السياسية المقلقة الأخرى، بما في ذلك التحايل على حدود الولاية الرئاسية، كما فعل دانيال أورتيغا في نيكاراغوا وخوان أورلاندو هيرنانديز في هندوراس، واستفحال الفساد، وتلاشي الثقة بالمؤسسات. لكن يبقى ترسيخ الديموقراطية مساراً صعباً ومتعرجاً، وهو يتطلب مناورات دائمة للمضي قدماً. لن تكون الانتخابات وحدها حلاً سريعاً للمشكلة إذاً.

أســـفر الوضع المستجد عن عواقب كارثية. رضخت نيكاراغوا وفنزويلا مثلاً لأشكال متنوعة من النزعات شبه الاستبدادية تحت إشراف "منظمة الدول الأميركية" قبل أن يتحول البلدان في نهاية المطاف إلى أنظمة دكتاتورية وحشية. انتشرت تداعيات هذه الكوارث السياسية في أنحاء المنطقة: هرب حوالى ستة ملايين فنزويلي بعدما شهد بلدهم أسوأ انهيار اقتصادي في زمن السلم في التاريخ الحديث. وغرق البلدان أيضاً في حالة من الفوضى وأصبحا معقلاً للمنظمات الإجرامية العابرة للحدود والجماعات الإرهابية. كذلك، أنشأ البلدان شبكات من الفساد والنشاطات غير القانونية لدعم الأنظمة الاستبدادية فيهما.

في أماكن أخرى من المنطقة، انتقلت الدول الديموقراطية إلى شكلٍ مألوف من الحُكم غير الديموقراطي بقيادة زعماء أقوياء ذوي ميول استبدادية، فيما امتنعت الديموقراطيات السليمة نسبياً عن تحريك أي ساكن. على مر أول عقد من القرن الواحد والعشرين، زادت دول مثل بوليفيا والإكوادور طموحات الصين المتعطشة إلى السلع، واستغلت التدفق النقدي في المرحلة اللاحقة لإنفاق أموال طائلة على البرامج الاجتماعية الشائعة تزامناً مع إضعاف المؤسسات السياسية، والتلاعب بالانتخابات، وخنق المجتمع المدني. التزمت معظم دول المنطقة الصمت في وجه هذه المناورات غير الديموقراطية على اعتبار أن التضامن مع الجمهوريات الشقيقة لا يعني الامتناع عن التدخّل فحسب بل تخفيف الانتقادات أيضاً.

لكن لا يُمعِن اليساريون وحدهم في استنزاف المعايير والممارسات الديموقراطية، بل يطرح ظهور عدد من القادة في المعسكر اليميني الشعبوي تهديداً خطيراً على الحُكم الديموقراطي في المنطقة. طرح رئيس السلفادور نجيب بوكيلي نفسه، بنبرة شبه ساخرة، كـ"أظرف دكتاتور في العالم" وقد أدخل أعضاءً من القوات المسلحة إلى المجلس التشريعي لإجبار المشرّعين على تنفيذ أجندته الخاصة. كذلك، تحدّى رئيس البرازيل جايير بولسونارو سلطة السلك القضائي المحلي على إدارته صراحةً وهدّد برفض نتيجة الانتخابات العامة في السنة المقبلة في حال خسارته. رحّب بوكيلي وبولسونارو وقادة آخرون أيضاً بتعميق التزاماتهم مع حكومات خارجية غير ليبرالية مثل الصين مقابل تلقي لقاحات كورونا.

فيما تواجه الديموقراطيات في نصف الأرض الغربي أكبر التهديدات من الداخل، من الواضح أنها تتعرّض أيضاً للمزيد من الضغوط الخارجية المضادة للديموقراطية، فقد وسّعت دول استبدادية مثل الصين وروسيا وجودها السياسي والاقتصادي في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. يستطيع الحكام المستبدون أو كل من يطمح إلى الاستبداد الاتكال على الصين وروسيا لتقوية أنظمتهم المحاصرة، فهما تقدّمان لهم الموارد والرساميل السياسية اللازمة لتحمّل ضغوط العالم الديموقراطي. كذلك، بدأ تعميق التواصل مع الصين وروسيا يُسهّل نشر المعايير غير الديموقراطية في أنحاء المنطقة.

حتى الولايات المتحدة ليست محصّنة ضد التآكل الديموقراطي الذي اجتاح المنطقة في الفترة الأخيرة. قد تعتبر أميركا اللاتينية ودول الكاريبي الولايات المتحدة دخيلة أحياناً، لكنها تبقى جزءاً من نصف الأرض الغربي. أصبحت هذه الحقيقة اليوم أكثر أهمية مما كانت عليه قبل أحداث 6 كانون الثاني، حين اندلعت أعمال شغب غير ديموقراطية في مبنى الكابيتول الأميركي وسلّطت الضوء على المشاكل الديموقراطية التي تشهدها الولايات المتحدة. بسبب هذا المشهد غير الليبرالي، تراجع وهج الولايات المتحدة كـ"مدينة مشرقة فوق تلة" على الأرجح، لكن تستطيع واشنطن أن تعوّض عن المصداقية التي خسرتها عبر إقناع الدول الأخرى في الأميركيتَين بأن الولايات المتحدة لا تكتفي بمراقبة الديموقراطية في الخارج، بل إنها تسعى أيضاً إلى بناء الديموقراطية داخلياً. في النهاية، يبقى مشروع الديموقراطية مشتركاً، ويُفترض ألا تعتبر الولايات المتحدة نفسها غير معنيّة بجهود تحسين الديموقراطية، محلياً أو خارجياً.

عــــودة إلــــى الــــجــــذور

فيما تتراجع الولايات المتحدة اليوم عن جزءٍ من التزاماتها العالمية، وهي خطوة سبق واتخذتها في أفغانستان، يُفترض أن تستعد لعودة مختلفة عبر تجديد التزامها السياسي مع محيطها وتعميقه. قد لا يرحّب الجميع في الأميركيتَين بتكثيف التدخّل الأميركي، لكنّ عودة الولايات المتحدة إلى أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي قد تُسرّع مسار التعافي من تداعيات أزمة كورونا اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وتمنع العواصم الأخرى من عقد صفقات شائكة مع بكين. قبيل الحرب المكسيكية الأميركية، اعتادت الجمهوريات الإسبانية على اعتبار الولايات المتحدة "جمهورية شقيقة"، لكن تلاشى هذا المفهوم منذ ذلك الحين. اليوم، فيما تعيد الولايات المتحدة تقييم مصالحها الأساسية، ثمة فرصة لإعادة إحياء نظام الجمهوريات الشقيقة والقادرة على التعاون لكبح التحديات الاستبدادية التي يواجهها النظام الديموقراطي الإقليمي في القرن الواحد والعشرين. لتحقيق هذا الهدف، لا بد من تعديل الاستراتيجية الأميركية الكبرى حيث تتولى الأميركيتان دوراً مؤثراً، بما يتماشى مع مساهمات المنطقة لتعزيز الازدهار والأمن الأميركي، ولا بد من التشجيع على التوافق الإقليمي عن طريق التجارة والديبلوماسية والتبادل والقيم.

لتحقيق هذه الغاية، يجب أن تضع الولايات المتحدة استراتيجية داعمة للديموقراطية وخاصة بهذه المنطقة وتحدياتها، ويُفترض أن تُشجّع الموقعين الآخرين على "الميثاق الديموقراطي للبلدان الأميركية" للتعامل بجدّية مع التزامهم بالديموقراطية. كذلك، يجب أن تنظّم واشنطن لقاءً ديموقراطياً إقليمياً لإلزام شركائها بمجموعة مشتركة من التدابير الداعمة للديموقراطية. قد تشمل تلك التدابير حُزَماً من المكافآت، مثل التجارة التفضيلية وسياسات الهجرة، فضلاً عن العقوبات على شكل عزلة ديبلوماسية وعقوبات اقتصادية مدروسة ضد القادة والدول التي تفسد المعايير والعمليات الديموقراطية.

على صعيد آخر، يجب أن تستبدل الولايات المتحدة قواعد الحكام الدكتاتوريين باستراتيجيات أخرى وتدابير داعمة للقادة الديموقراطيين. لبلوغ هذا الهدف، يُفترض أن تموّل الجهود الرامية إلى تقليص الانقسامات والصراعات وأعمال العنف التي صبّت في مصلحة المستبدين، ويجب أن تساعد المنطقة أيضاً على ترسيخ أجهزة إنذار داخل نظام الأميركيتَين لدق ناقوس الخطر قبل أن يفوت الأوان على إعادة بناء المعايير والمؤسسات الديموقراطية المتلاشية. يمكن تحقيق ذلك مثلاً عبر مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي التي تشهد تطورات متسارعة بحثاً عن أي مؤشرات تحذيرية سياسية. بدأ التداول بالأجندة المستقبلية المضادة للديموقراطية على شكل حملات تضليل عبر "فيسبوك" و"واتساب" اليوم.

أخيراً، يجب أن تُعطى الأولوية أيضاً لتعميق التعاون بين الأميركيتَين على جميع الجبهات وتنسيق الجهود لمعالجة الخلل القائم داخل "منظمة الدول الأميركية". ستحصل الولايات المتحدة على فرصة قيّمة لقيادة هذا النوع من الجهود حين تستضيف قمة الأميركيتَين المقبلة في العام 2022. ويُفترض أن تعترف واشنطن صراحةً بأن المنطقة بدأت تنجرّ وراء حُكم الأقلية وتطلق جهوداً جماعية لدعم حُكم الأكثرية. إنها مبادئ أساسية لترسيخ استراتيجية جديدة وبناء قلعة ديموقراطية قوية في الولايات المتحدة وجميع أنحاء الأميركيتَين.