عيسى مخلوف

عبد الرحمن الباشا من بيروت إلى العالم

23 تشرين الأول 2021

02 : 00

يوم الأحد الماضي، عزفَ عبد الرحمن الباشا على البيانو أثناء تقديم الكونشرتو الثانية ليوهانس برامس في الضاحية الباريسيّة "بُولُونْ"، وكان صوته المنفرد حاسماً من خلال أدائه الموسيقي المذهل كأنّه يتأرجح، بتناغُم نادر، بين الإيقاع الأعلى والإيقاع الأَرَقّ، ويأخذنا معه إلى عوالم مفتوحة على المدى الأوسع. حين انتهت الأمسية الموسيقيّة، لم يتحرّك المستمعون من أمكنتهم وظلّوا يصفّقون إلى أن عاد الباشا وعزف إحدى مقطوعات "لَيليّات" لشوبان، بطريقته المعهودة لعزفه، وبالصورة التي سجّل بها أعماله الكاملة منذ سنوات.

وُلدَ عبد الرحمن الباشا في بيروت في كنف عائلة فنّيّة. والده توفيق الباشا، أحد روّاد الموسيقى العربيّة، ووالدته المغنّية وداد. في العاشرة من عمره قدّم أمسيته الأولى، وذاع اسمُهُ على المستوى العالمي بدءاً من العام 1978 يوم حازَ بالإجماع على الجائزة الأولى في مسابقة الملكة إليزابيت، وكان لا يزال في التاسعة عشرة من عمره. منذ ذلك الحين، وهو يقدّم أمسيات على البيانو في مختلف العواصم العالميّة، كما يعزف ضمن فرق أوركستراليّة برفقة قادة أوركسترا عالميين، ويحظى بإجماع النقّاد ويُحتفَى به كواحد من كبار عازفي البيانو في العالم.

من بين أكثر أعماله شُهرة، الأسطوانات التي تتضمّن الأعمالَ الكاملة على البيانو لشوبان والسوناتات الكاملة لبيتهوفن، وقد تمَّ استقبال هذه الأعمال بِوَصفِها "حدثاً كبيراً" في عالم الموسيقى، لا سيّما أنّها استطاعت أن تنقلَ النشيدَ الداخليّ للإنسان في تطلُّعاته وأحاسيسه ومعاناته، وفي نزوعِه الدائم إلى الجمال والحرّية.

أسطوانة "أرابيسك" قدّمت الباشا بصفته مؤلّفاً موسيقياً أيضاً، وله أسلوبه الخاصّ في هذا المجال. ولئن كانت هذه الأسطوانة التي تحتوي على اثنتين وثلاثين مقطوعة هي الأولى التي تكشف عن وجهه كمؤلّف، فإنّه دأب على التأليف منذ بداية عهده بالموسيقى. ويخال المستمع إليها أنّ الفُروق تَبطل بين إيقاعات ثقافات مختلفة، هو الذي نهلَ من مرجعيّة موسيقيّة لا يحدُّها زمان ومكان.

بعزفه على البيانو وتأليفه الموسيقى في الوقت ذاته، يشكّل عبد الرحمن الباشا علامة مهمّة في الموسيقى الكلاسيكيّة اليوم، ومن خلال تجربته الغنيّة والمتنوّعة يُقَرِّبُ البعيد ويختصر المسافات بين الشرق والغرب. وإذا كانت تجربة الباشا، كما هو معروف، تتميّز بهذا المزج الدقيق بين المتانة التقنيّة من جهة، والرهافة والشاعريّة من جهة ثانية، فهي تصبح حالة خاصّة بما يُغدِق عليها الفنّان من ثقافته المشرقيّة وتأصُّله فيها. من هنا، ومن هذه العناصر المجتمعة كلِّها، يعيش عبد الرحمن الباشا الموسيقى بِوَصفِها اختباراً شخصياً، من خلالها ينفذُ إلى الأعماق ويدعونا معه إلى الاقتراب من الينابيع الأولى وملامسة الجوهر الإنساني والجمالي.

يتملّكني هذا الإحساس كلّما استمعتُ إليه، فالموسيقى التي يعزفها تجسّد الحالة الفنّيّة التي بإمكانها أن تكون قاسماً مشتركاً بين الشعوب وعامل ائتلاف لا اختلاف، كسائر أوجه الإبداع والفنون. وكم شعرتُ بذلك، في تلك الأمسية التي قدّمها في مبنى الأمم المتّحدة في نيويورك، في العاشر من شهر أيّار من العام 2007، يوم أحيت الجمعيّة العامّة ندوة حول حوار الحضارات، شاركت فيها على مدى يومين متتاليين مجموعة من المفكّرين والكتّاب والمؤرّخين وعلماء الاجتماع. وكانت هذه الأمسية، التي عزف خلالها عبد الرحمن الباشا بعض روائع الموسيقى الكلاسيكيّة، إحدى محطّاتها البارزة.

إثر مشاركته في كونشيرتو يوهانس برامس، الأحد الماضي، تحدّثنا عن الموسيقى بالطّبع، وكالعادة لم يغب عن حديثنا لبنان ولا مدينة بيروت التي يحبّ، ولم تغب الأوضاع الراهنة التي حوّلت اللبنانيين رهائن في يد سياسيّي الفساد والإجرام ممَّن أفقدوا البلد هيبته المعنويّة، وكذلك تجربته الفريدة التي تَميَّز بها ذات يوم، ضمن محيطه وأبعد من هذا المحيط. لكنّ البلد الصغير الذي أعطى العالم عشرات المبدعين في مختلف الحقول، ومنهم عبد الرحمن الباشا، لم يعرف حتّى الآن كيف يتغلّب على الانفصال الوجداني في كيانه ووجوده، ولا كيف يخرج من نظام طائفي يسمِّم حياة أبنائه من جيل إلى جيل، ولم ينتج عنه إلاّ الخوف والكراهية والحروب الأهليّة.


MISS 3