مايكل كوفمان

تراجع النفوذ الروسيّ... مجرّد خرافة

28 تشرين الأول 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

وصلت إدارة بايدن إلى السلطة وهي تلوّح بأولوية واضحة وصريحة: التصدي للصين المتوسّعة. في المقابل، تراجع الاهتمام بطريقة التعامل مع روسيا، ولم تعد هذه المسألة إلى الواجهة إلا عندما احتشدت القوات الروسية على حدود أوكرانيا في شهر نيسان. ذكّرت تلك الأزمة جميع المعنيين بمخاطر الإغفال عن تحركات موسكو. لكن بحلول شهر تموز، أعلن الرئيس جو بايدن مجدداً أن روسيا تقود اقتصاداً يملك أسلحة نووية وآباراً نفطية بكل بساطة.

ليس بايدن أول زعيم أميركي يحمل هذه العقلية. منذ نهاية الحرب الباردة، أعلن السياسيون الأميركيون في مناسبات متكررة أن أيام روسيا كقوة عالمية حقيقية أصبحت معدودة. في العام 2014، اعتبر السيناتور الجمهوري عن ولاية أريزونا، جون ماكين، أن روسيا هي مجرّد "محطة بنزين متنكّرة بزيّ بلد". وخلال السنة نفسها، اعتبر الرئيس الأميركي باراك أوباما روسيا مجرّد "قوة إقليمية". لكن بعد فترة غير طويلة، نجحت روسيا في التدخّل في الحرب السورية، وأثّرت على الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016، وورّطت نفسها في الأزمة السياسية في فنزويلا والحرب الأهلية في ليبيا. ومع ذلك، لا تزال الفكرة المرتبطة بهشاشة روسيا شائعة.

تكمن المشكلة الحقيقية في طرح حجج مبالغ فيها لإثبات التراجع الروسي. يُفترض ألا تتوقع الولايات المتحدة من روسيا أن تتخلى تلقائياً عن نهج المواجهة فور رحيل الرئيس فلاديمير بوتين من السلطة. تحظى سياسة بوتين الخارجية بدعم واسع وسط النخبة الحاكمة في روسيا، ومن المتوقع أن يشمل إرثه مجموعة من الخلافات العالقة، أبرزها ضم شبه جزيرة القرم. بعبارة أخرى، ستبقى الخلافات مع الولايات المتحدة قائمة.

لا تستطيع واشنطن إذاً أن تصبّ تركيزها على الصين وتكتفي بانتظار ما ستفعله روسيا. بدل اعتبار روسيا مجرّد قوة متضائلة، يجب أن يعتبرها القادة الأميركيون قوة دائمة ويعترفوا صراحةً بقدرات البلد الحقيقية ونقاط ضعفه. من خلال إعادة النظر بالفرضيات الأميركية حول القوة الروسية، قد يتمكن صانعو السياسة من التعامل مع المواجهة المطوّلة التي ستخوضها واشنطن في المرحلة المقبلة ضد خصم قوي.

يجب ألا تنظر الولايات المتحدة إلى روسيا كقوة ضعيفة إذاً، بل كقوة دائمة ومستعدة لتهديد مصالح الأمن القومي الأميركية خلال السنوات العشر أو العشرين المقبلة. وحتى لو تبيّن أن الصين هي التي تطرح أكبر التهديدات على المدى الطويل، لن تزول التحديات الروسية بسهولة. ومهما أرادت واشنطن التركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، يجب أن تُقيّم أيضاً احتمال اندلاع حرب أخرى بين روسيا وأوكرانيا. قد ينجم هذا الصراع العسكري عن الاضطرابات السياسية في بيلاروسيا أو أزمات مشابهة لحرب ناغورنو كاراباخ في العام 2020.

مقارنةً بالصين، تطرح روسيا بدورها خطراً بارزاً على الأراضي الأميركية، فهي لا تزال أول مصدر تهديد نووي على الولايات المتحدة رغم توسّع ترسانة الصين المؤلفة من أسلحة نووية استراتيجية. ينطبق الوضع نفسه على قدرة روسيا على بلوغ القارة الأميركية بصواريخ تقليدية طويلة المدى. كذلك، تنشر روسيا قوات عسكرية في الخارج أكثر من الصين، إذ تنتشر قواعدها في القوقاز وآسيا الوسطى وأوروبا والشرق الأوسط، وهذا ما يجعل جيشها قريباً من الجيش الأميركي وقوات حلف الناتو. في ما يخص الحروب غير المباشرة، يثبت سجل موسكو على مستوى التدخل في الانتخابات وعمليات القرصنة أنها مستعدة لاستعمال التقنيات الناشئة ضد الولايات المتحدة وحلفائها. حتى أن الكرملين قد يُهدد المصالح الأميركية بأقل كلفة ممكنة. كانت العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا وسوريا وليبيا محدودة وغير مكلفة. تنطبق المعايير نفسها على اعتداءاتها الإلكترونية وحملات التضليل التي تطلقها.

من المتوقع أن تطرح روسيا أكبر التهديدات المتواصلة في مجال الحروب الإلكترونية والهجوم على الديموقراطية الليبرالية تحديداً. صممت روسيا معدات قليلة الكلفة لدعم الأنظمة الاستبدادية الأخرى، وتضخيم الأصوات غير الليبرالية في الديموقراطيات القائمة، وتسميم أنظمة المعلومات، وتخريب الانتخابات والمؤسسات الديموقراطية الأخرى. وبما أن موسكو مقتنعة بأن إضعاف الديموقراطية قد يُسرّع تراجع النفوذ الأميركي، من المنطقي أن تتابع هذا النوع من الجهود. لاحظت دول أخرى نجاح روسيا في هذا المجال وبدأت تقلّدها، وقد اتّضح ذلك حين أطلقت الصين نسختها الخاصة من حرب المعلومات على طريقة الكرملين خلال أزمة كورونا.

يتعلق مصدر قلق أخير بزيادة القواسم المشتركة بين موسكو وبكين. عقدت الحكومتان شراكة استراتيجية لتبادل الدعم التقني والمادي، ودرء الضغوط الغربية، واستعمال معظم مواردهما للتنافس مع الولايات المتحدة بدل أن تكون المنافسة بينهما. كذلك، توسّع التعاون الدفاعي والعسكري بين الطرفين. سيكون أثر هذا الاصطفاف أكبر من المتوقع لأنه سيزيد التحديات التي تطرحها كل دولة فردية على المصالح الأميركية. لهذا السبب، لن يكون إعطاء الأولوية للصين وروسيا في الاستراتيجية الأميركية كافياً في المرحلة المقبلة، بل يجب أن تعترف واشنطن بأن المشاكل التي يُسببها هذان البلدان ليست منفصلة بالضرورة.

يجب أن تتجاوز واشنطن الخرافة القائلة إن روسيا هي دولة محاصرة وتعترف بتراجعها الخاص. عملياً، تَقِلّ الأدلة التي تثبت أن قادة روسيا ينظرون إلى بلدهم بهذه الطريقة، إذ يبدو أنهم يعتبرون روسيا مركز القوة في منطقتها ولاعبة مؤثرة على الساحة العالمية. كان الانسحاب الأميركي الفاشل من أفغانستان إثباتاً إضافياً على القناعة الروسية القائلة إن الولايات المتحدة هي التي تشهد تراجعاً واضحاً. سيكون تجاهل هذا الرأي كفيلاً بنشر توقعات خاطئة حول سلوك روسيا، ما يجعل الأميركيين وحلفاءهم عاجزين عن استباق التحركات الروسية.

اتخــــذت إدارة بايدن بعض الخطوات لتصحيح المسار القائم، منها التركيز على تعزيز المرونة الديموقراطية. من خلال وضع الأمن الإلكتروني على رأس أولويات الأمن القومي، وتقوية البنى التحتية الأساسية، وتحسين أنظمة المعلومات، واستئصال الفساد الذي تستعمله روسيا كسلاح لتخريب المؤسسات الديموقراطية، تستطيع واشنطن وحلفاؤها إضعاف مصدر أساسي للنفوذ الروسي في الخارج. في غضون ذلك، يمكن تحديد أسس المواجهة المطوّلة في المرحلة المقبلة إذا بذلت الإدارة الأميركية الجهود اللازمة للسيطرة على الأسلحة وإرساء شكل من الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا، علماً أن هذه الخطوة يجب أن تشمل العالم الإلكتروني والفضاء.

لكن يُفترض ألا تبالغ واشنطن في التركيز على الصين خلال المرحلة المقبلة لدرجة أن تهمل مسائل مهمة أخرى مثل روسيا. صدر "الدليل الاستراتيجي الموقت للأمن القومي الأميركي" في شهر نيسان الماضي كجزءٍ من أول تحليلات الأمن القومي في عهد بايدن، وقد ناقش الملف الصيني بعمق مقابل تخصيص عبارات محدودة للملف الروسي. لا بد من تصحيح هذا الخلل في الوثائق الاستراتيجية المستقبلية، مثل استراتيجيات الأمن القومي والدفاع الوطني المرتقبة.

يجب أن تُوجّه المقاربة نفسها ميزانية الدفاع الأميركية. لم تتراجع التهديدات العسكرية الروسية، ومع ذلك انخفض التمويل الذي تُخصّصه واشنطن للتعامل مع هذا الملف: أدت طلبات الميزانية المتلاحقة منذ العام 2020 إلى تراجع الدعم لمبادرة الردع الأوروبية (حملة أميركية لتعزيز الوجود العسكري الأميركي في أوروبا بعد إقدام روسيا على ضم شبه جزيرة القرم) بنسبة وصلت إلى 19% في الفترة الأخيرة. لكن من المستبعد أن تؤدي إعادة توجيه تلك الأموال نحو شرق آسيا، بما يتماشى مع توجهات إدارة بايدن، إلى إحداث فرق بارز في التوازن العسكري تجاه الصين، بل من المتوقع أن تزيد هذه الخطوة المخاطر المطروحة في أوروبا بلا مبرر. يسهل أن يتحقق هذا التوقع نظراً إلى احتمال اندلاع صراعات متزامنة مع الصين وروسيا حيث يستفيد أحد البلدَين من أي أزمة مرتبطة بالبلد الآخر لتحقيق أهدافه الخاصة. يجب ألا تسمح واشنطن بحصول هذا السيناريو إذاً وتمنع أوروبا من التحول إلى الحلقة الأضعف بسبب استراتيجيتها.سيؤدي الناتو دوراً محورياً في هذه المساعي. بدأ الحلف بتحديث وثائقه التوجيهية الرسمية في الفترة الأخيرة، ويجب أن تبقي واشنطن روسيا، لا الصين، على رأس أولوياتها. كذلك، يُفترض أن تتابع الولايات المتحدة تشجيع حلفائها وشركائها الأوروبيين على تحمّل أعباء إضافية في مجال الردع والدفاع في القارة الأوروبية. أدى الانسحــاب الأميركي من أفغانستــان إلى إعادة إحياء الدعوات الأوروبية لتعزيز قدرات القارة العجوز. حان الوقت إذاً لاتخاذ خطوات حقيقية لتقوية الجناح الأوروبي داخل حلف الناتو.

أخيراً، يجب أن تزداد جرأة واشنطن في دفاعها عن الديموقراطية ضد جهود التخريب الخارجية. يُفترض أن يقوي الأميركيون وحلفاؤهم وشركاؤهم ردودهم الجماعية على الحرب السيبرانية التي تخوضها موسكو، وتدخّلها في الانتخابات، وتحركات أخرى قد تُهدد سلامة الأنظمة السياسية والاقتصادية. يجب أن يتفقوا مثلاً على اتخاذ خطوة جماعية ضد أي تدخّل خارجي في الاستحقاقات الانتخابية بما يتجاوز العتبة المتفق عليها. قد تتفوّق طموحات الصين الرقمية على طموحات روسيا، لكن بدأت موسكو تُطوّر نسختها الخاصة من الدكتاتورية الرقمية التي تهدف جزئياً إلى إضعاف الديموقراطية حول العالم. لمعالجة هذا التهديد، تبرز الحاجة أيضاً إلى التعاون مع الشركاء الديموقراطيين الذين يحملون العقلية نفسها في المنظمات الدولية، مثل الاتحاد الدولي للاتصالات، لمنع بكين وموسكو من تحديد القواعد والمعايير الرقمية مستقبلاً.

يبقى التهديد الذي تطرحه الصين الرجعية والمتوسّعة قوياً في جميع الأحوال، لكن تستطيع الولايات المتحدة أن تتعامل مع قوتَين من هذا النوع دفعةً واحدة: الصين التي تطرح تهديداً متسارعاً من جهة، وروسيا التي تطرح تهديداً دائماً من جهة أخرى. عند التكلم عن روسيا، يشير المسؤولون في إدارة بايدن دوماً إلى قدرة الولايات المتحدة على أداء مهام متعددة في الوقت نفسه. حان الوقت كي يثبت الأميركيون جدّية هذا الموقف على أرض الواقع.


MISS 3