إيفون أنور صعيبي

العيّاش لـ"نداء الوطن": تمويل هدر الدولة وفسادها... جناية

7 تشرين الأول 2019

01 : 35

في الوقت الذي مازالت فيه السلطة السياسية مصرة على تمويل عجزها من سندات الخزينة التي يصدرها "المركزي" لحسابها ضاربة كل الدعوات عرض الحائط لإصلاح المالية العامة وتخفيض العجز وايقاف الهدر، برز موقف النائب السابق لحاكم مصرف لبنان غسان العيّاش بأن هذه العملية ترقى في الدول المتطورة الى الجناية. اذ عندما يقرض المصرف المركزي الدولة أو سواها فهو يخلق وحدات نقدية جديدة، وكل من هذه الوحدات النقدية تتحوّل الى عدّة وحدجات، بما يشبه التطور السرطاني في حجم الكتلة النقدية. 

هذه العملية التي اضطاع بها مصرف لبنان "مرغمًا" هي أكبر مصدر للتضخم وارتفاع الاسعار. وبالرغم من وضوح قانون "النقد والتسليف" في لبنان الذي الذي صدر سنة 1963 بمنع المصرف المركزي من اقراض الدولة، وصياغة هذا المنع بمواد حاسمة لا تقبل التأويل، فإن السلطة السياسية لم تحترم تاريخيًا استقلالية المؤسسات، ولم تتفهم استقلالية المصرف المركزي وموجباتها الحيوية، حتى أن محاولة الحاكم الأسبق ادمون نعيم صدّ الدولة عن طلب التمويل المستمر من المصرف، عرضته للاعتداء الجسدي بواسطة القوى الامنية "الشرعية".



تشدّد القوانين في منع المركزي من إقراض الدولة ليس عبثياً، بل هدف الى حماية المجتمع اللبناني من مخاطر التضخّم وانخفاض القوة الشرائية للعملة اللبنانية، وتجنب المشاكل الدولية التي سببتها هذه العملية وكانت سبباً للكثير من المشاكل. فعممت اتفاقية الوحدة النقدية الأوروبية هذا الحظر على البلدان التي انضمّت إلى الاتحاد النقدي بحيث أصبح الحظر المطلق لإقراض القطاع العام شرطاً أساسياً في بلدان الاتحاد الأوروبي، والقاعدة منتشرة اليوم في معظم بلدان العالم.

أما في لبنان فإن "تبرّع مصرف لبنان بإقراض الدولة أو تأمين تمويل عجزها من القطاع المصرفي أعفى الدولة من همّ التصدّي لمشاكل المالية العامّة وجعلها تتقاعس عن الإصلاح، معتمدة على التمويل السهل من مصرف لبنان والمصارف لعجزها، سنة بعد سنة. هذا شجّع على الإنفاق غير المنضبط والهدر والفساد لأن المال متوفّر من دون عناء. من هذه الزاوية اعتبر أن تأمين هذا التمويل بالطريقة التي اتّبعت هو أحد الأسباب الأساسية لاستمرار وتضخم مشاكل المالية العامّة ووصول لبنان إلى شفير الهاوية"، كما يقول العيّاش.

- هل هناك نية لاعتماد اكثر من سعر للصرف؟

ليس هناك نيّة أو سياسة هادفة إلى إيجاد تعدّد في سعر الصرف في لبنان، فقد كان لبنان طوال تاريخه النقدي متميّزاً بين الدول العربية المجاورة بوحدة سعر الصرف وحرية تحويل الأموال بين العملات وبين لبنان والخارج.

كما أن لبنان يقيم علاقات وطيدة مع المؤسّسات المالية الدولية التي تعتبر وجود أكثر من سعر للصرف عيباً من عيوب الأنظمة النقدية، لأنه ينطوي على دعم اصطناعي لسعر الصرف واستنزافاً بالتالي للاحتياطات الرسمية. شجّع صندوق النقد الدولي على توحيد سعر الصرف في سوري ومصر وسواهما من البلدان ذات الاقتصاد المركزي، وحثّها بإلحاح على التخلّي عن الدعم المصطنع لسعر الصرف وترك السوق تحدّد سعر العملة على قاعدة العرض والطلب.

لكن توقّف مصرف لبنان عن بيع الدولار حتى يحافظ على ما تبقّى لديه من موجودات خارجية دفع المتعاملين إلى شراء الدولار من السوق الموازية، فنشأ سعر رديف وأصبح في لبنان سعران للصرف.

من المؤسف أن هذا التحوّل يعتبر تراجعا في نظام لبنان النقدي وتنكّراً للقواعد التي كان نظامنا مستنداً إليها. فيما تنجح دول مجاورة مثل مصر في توحيد سعر الجنيه بعد جهود طويلة. فإن لبنان، رمز الليبرالية في المنطقة ينتقل إلى نظام السعرين، ولا يستبعد في حال استمرار الأزمة أن تكون هناك عدّة أسعار لليرة اللبنانية.

- ما القيمة التي من المتوقع أن يصل اليها سعر الصرف إن أوقف المركزي تدخله؟

لا أحبّ أن أجيب على هذا السؤال لأن التوقعات والتكهّنات بالنسبة لمستقبل سعر الليرة يهمّ المضاربين في الدرجة الأولى ويشجّع على توجيه المضاربين.

أكتفي بالقول "الأسعار بيد الله".

- هل هناك اتفاق ضمني لتحرير سعر الصرف؟

إتفاق بين من ومن؟ إذا كان المقصود ترك المصرف المركزي تحديد السعر للعرض والطلب فلا يبدو أن هذا الأمر وارد لديه. فقد فضّل المركزي تغيير النظام النقدي كما ذكرنا والحدّ من تلبية الطلب على العملات الأجنبية من موجوداته على تحرير السعر، أي الخضوع لقاعدة العرض والطلب.

- يعتبر البعض أن المركزي يقوم بما لا يقع ضمن اختصاصه. ما رأيك؟

من الملاحظ أن الدولة العاجزة منذ عقود عن إصلاح أوضاعها المالية تركت مصرف لبنان يقوم بالعديد من المهام بالنيابة عنها. فمصرف لبنان، إضافة إلى مهامه الأساسية المحدّدة في قانون النقد والتسليف، يدير شركات انتقلت ملكيتها إليه بفعل تعثّر المصارف أو توقّفها عن الدفع منذ أزمة "بنك انترا" الشهيرة سنة 1966 وحتى اليوم. فهو يدير بصورة غير مباشرة شركة طيران الشرق الأوسط وشركة انترا للاستثمار وكازينو لبنان وبنك التمويل وسواها. وهو يخترع البرامج والحوافز لدعم الاقتصاد وتشجيع المشاريع الجديدة الصغيرة والمتوسّطة.

هذا المشهد مخالف للقوانين وللقواعد الصحيحة في إدارة الاقتصاد وعلى الدولة أن تحرّر المركزي من هذه المهام التي أرهقته.

- يملك المركزي احتياطياً من الذهب. ما قيمته الفعلية؟ في حال طلبت الدولة اللبنانية هذا الاحتياطي، هل يكون من السهل تسييله؟

يملك مصرف لبنان حوالي 287 طنّا من الذهب، قسم منه موجود في مقرّ المصرف والباقي مودع في الولايات المتّحدة الأميركية. قيمة هذا المخزون تتغيّر حسب تطوّر سعر الذهب في الأسواق العالمية، وحالياً تبلغ قيمة ذهبنا حوالى 13 مليار دولار.

كتبت مؤخّرا بأن مخزون الذهب ليس مالاً تحت الطلب يمكن لمصرف لبنان استعماله عند الحاجة. فالقانون 42/86، المعروف بقانون الرئيس حسين الحسيني، يحظر التصرّف بذهب مصرف لبنان بصورة مباشرة أو غير مباشرة. صدر هذا القانون عندما علم الرئيس الحسيني بأن مصرف لبنان في عهد الدكتور ادمون نعيم يفكّر رهن الذهب أو بيعه لتأمين أموال للخزينة أمام استفحال عجز الموازنة، فقد كان النوّاب يعتبرون أن الذهب هو دعامة لليرة اللبنانية وبفقدانه تفقد الليرة الثقة بها. وهذا برأيي أمر مبالغ فيه.

العائق الثاني الذي يمنع التصرّف الفوري بالذهب أن الولايات المتّحدة لا تعيد الذهب المودع لديها بمجرد طلب ذلك. فقد انتظرت دول أخرى سنوات طويلة قبل استعادة جزء من مخزونها.

- سبق واقترحت وقف إقراض الدولة، اليوم كيف تقيّم الوضع؟

المسألة ليست اقتراحاً شخصياً بل هي تذكير بالمبادئ الأساسية التي ترعى عمل المصارف المركزية في العالم.

كقاعدة عامّة، في البلدان المتقدّمة، لا يجوز بصورة مطلقة تمويل القطاع العام بواسطة الاقتراض من المصرف المركزي. إن مخالفة هذا المبدأ ترقى في الدول المذكورة إلى مستوى الجناية. سبب هذا التشدّد أن المصرف المركزي عندما يُقرض الدولة أو سواها فهو يخلق وحدات نقدية جديدة، وكل من هذه الوحدات النقدية تتحوّل إلى عدّة وحدات، بما يشبه التطوّر السرطاني في حجم الكتلة النقدية.

إن هذه العملية هي أكبر مصدر للتضخّم وارتفاع الأسعار، فنصّت قوانين المصارف المركزية على منعها منعاً مطلقاً. انطلق هذا الحظر من ألمانيا لأنها أكثر من عانى من التضخم في النصف الأوّل من القرن العشرين، لكن اتفاقية الوحدة النقدية الأوروبية عمّمت هذا الحظر على البلدان التي انضمّت إلى الاتحاد النقدي بحيث أصبح الحظر المطلق لإقراض القطاع العام شرطاً أساسياً في بلدان الاتحاد الأوروبي، والقاعدة منتشرة في معظم بلدان العالم.

- ماذا عن لبنان؟

قانون النقد والتسليف في لبنان الذي صدر سنة 1963 كان سبّاقاً في منع المصرف المركزي من إقراض الدولة، صاغ هذا المنع بمواد حاسمة لا تقبل التأويل. ولهذه الغاية منح القانون مصرف لبنان استقلالية صلبة تجاه الدولة حتى لا تؤثر على سياساته وتجبره على تمويل ديونها، حماية للمجتمع اللبناني من مخاطر التضخّم وانخفاض القوة الشرائية للعملة اللبنانية.

لكن السلطة السياسية في لبنان لا تحترم استقلالية المؤسّسات، وهي لا تتفهّم استقلالية المصرف المركزي وموجباتها الحيوية. حاول الحاكم الأسبق ادمون نعيم صدّ الدولة عن طلب التمويل المستمرّ من المصرف فتعرّض للاعتداء الجسدي بواسطة القوى الأمنية "الشرعية".

بعيداً من هذه القواعد الاقتصادية النظرية، فقد حذّرتُ مراراً من سهولة أو استسهال تمويل مصرف لبنان للدولة لسبب لبناني بحت. برأيي إن تبرّع مصرف لبنان بإقراض الدولة أو تأمين تمويل عجزها من القطاع المصرفي أعفى الدولة من همّ التصدّي لمشاكل المالية العامّة وجعلها تتقاعس عن الإصلاح، معتمدة على التمويل السهل من مصرف لبنان والمصارف لعجزها، سنة بعد سنة. هذا شجّع على الإنفاق غير المنضبط والهدر والفساد لأن المال متوفّر من دون عناء.

من هذه الزاوية أعتبر أن تأمين هذا التمويل بالطريقة التي اتّبعت هو أحد الأسباب الأساسية لاستمرار وتضخم مشاكل المالية العامّة ووصول لبنان إلى شفير الهاوية.

- في الاعوام الـ 15 الاخيرة كيف كان المركزي يطبع العملة؟ وعلى ماذا كان مرتكزاً؟

أودّ توضيح بعض المفاهيم الملتبسة لدى الرأي العام. إن طبع العملة بالمفهوم الاقتصادي يعني خلق النقد، وهذا ما يجري عند قيام مصرف لبنان بتسليف الدولة أو سواها. وهذا يختلف عن طبع الأوراق النقدية لتلبية حاجة السوق إليها.

إن خلق النقد مسألة خطيرة تؤدّي إلى تراجع قوّة العملة وارتفاع الأسعار، أما طبع الأوراق النقدية فهو عملية ثانوية وأثرها الاقتصادي ضعيف.

النقد المتداول هو جزء صغير ومحدود من الكتلة النقدية في البلد، والكتلة النقدية تشمل إلى النقد المتداول الحسابات المصرفية على أنواعها وكذلك سندات الخزينة. طبع الأوراق النقدية يزيد كمّيتها فقط، أما خلق النقد فهو يزيد الكتلة النقدية بأسرها ويسبّب التضخم.

تمويل الدولة من النظام المصرفي، أي مصرف لبنان والمصارف، لم يكن يتمّ ضمن قواعد أو ضوابط بل حسب حاجات الدولة للتمويل، وهذا ما أدّى إلى تضخّم الدين العام نتيجة تراكم عجز الموازنة والخزينة سنويا.

- كيف تصف وضع الاحتياطي وسعر صرف الدولار؟

تصريحات مصرف لبنان تكرّر بأن احتياطي المصرف بالعملات، أي موجوداته الخارجية، تبلغ 37 مليار دولار. وهذا صحيح بالاستناد إلى الأرقام التي ينشرها المصرف. إلا أن هذه الموجودات ليست كلها نقدية، فالموجودات النقدية تبلغ حوالى 30 مليار دولار، وهناك حوالى 7 مليارات دولار بشكل أوراق مالية ضمنها سندات يوروبوندز لبنانية.

لذلك فإن التدخّل في سوق القطع دفاعاً عن الليرة اللبنانية أو لتسديد مدفوعات خارجية للدولة، لا يعوّل إلا على الموجودات النقدية، أي الثلاثين مليار دولار. المشكلة أن مصرف لبنان يمتلك هذه الموجودات الخارجية مقابل إيداعات المصارف لديه التي تفوق كثيراً مطلوباته. أصبح تصحيح ميزانية مصرف لبنان مرتبطاً بالإصلاح المالي الشامل في لبنان، وهذا أمر ملحّ.

وقد تعرّضت موجودات مصرف لبنان الخارجية لنزف مستمرّ منذ سنة 2011 نتيجة خروج أموال من لبنان بفعل ضعف الثقة بالإدارة السياسية والمالية. ولم تفلح الهندسات المالية التي قام بها المصرف منذ 2016 في وقف تراجع الاحتياطي، وهذا ما دفع المصرف في الأسابيع الأخيرة إلى الحدّ من استعمال الاحتياطي مما خلق ما عرف بأزمة الدولار ولجوء بعض المتعاملين إلى الصيارفة.

- لماذا تم تثبيت سعر الصرف على الـ 1500؟ هل بوسعك ان تفسّر السبب؟ وماذا كانت النوايا؟

من المعروف أن سعر صرف الليرة اللبنانية تعرّض لانهيار كبير سنة 1992 لأسباب لا تدخل في نطاق بحثنا اليوم. السعر لامس وقتها 3000 ليرة لبنانية قبل أن ينخفض إلى حوالى 2500 ليرة. وما أن شاع بأن الرئيس رفيق الحريري سيتولّى رئاسة الحكومة حتى ساد التفاؤل بالأسواق لكون الرئيس الشهيد صاحب مشروع اقتصادي كبير وعلاقات عربية ودولية تؤهّله لإنقاذ الاقتصاد اللبناني.

هكذا، في خريف 1992 شهدت سوق القطع موجات عاتية لبيع الدولار وشراء الليرة اللبنانية، لكن مصرف لبنان الحريص على منع التقلبات الحادّة في سوق القطع أصبح شارياً للدولار سامحاً بخفض تدريجي لسعره. وعندما وصل السعر إلى حدود 1507 خلال الأشهر التالية استنسب مصرف لبنان وقف انخفاض السعر أكثر حتى لا تنقلب موجة البيع باتجاه الطلب على الدولار إذا وجدت السوق أن سعره بات منخفضاً.

منذ ذلك الوقت دافع مصرف لبنان عن الدولار لمنع انخفاضه، ولكن مع القناعة بأن مالية الدولة اللبنانية في أزمة كبيرة وتعصى على الحلّ، تحوّل مصرف لبنان مدافعاً عن الليرة عند هذا السعر لمنع هبوط سعرها. وهو ما زال مدافعاً عن الليرة لتأمين استقرار سعر الصرف وحماية مداخيل اللبنانيين. بعد استفحال الأزمة وتراكم العجز ووصول نسبة الدين العام إلى الناتج إلى حوالى 160 بالمئة، أصبحت هذه المهمّة فوق قدرات مصرف لبنان فغيّر سياسته على النحو الذي ظهر في الأسابيع الأخيرة.

لا يمكن الاستمرار بحماية سعر صرف الليرة اللبنانية بواسطة موجودات مصرف لبنان الخارجية فقط ومن دون تقدّم جذري على صعيد لجم عجز الموازنة وتخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي.

- ماذا لو قام السوريون وطلبوا ودائعهم الموجودة في المصارف اللبنانية والمقدرة بحوالى 18 مليار دولار؟


لا أعرف تماماً حجم ودائع السوريين في لبنان، ولكني أعتقد أن هذه الودائع قد انخفض حجمها مع الوقت بسبب التطورات السياسية والأمنية في لبنان. وعندما انفجرت الحرب السورية فإن القسط الأكبر من أموال المودعين السوريين في سوريا انتقل إلى دبي والمصارف الأوروبية ولم تأت إلى لبنان. لذلك فإني لا أعتقد بتاتاً بوجود ودائع سورية ضخمة مرشّحة لهجرة المصارف اللبنانية.

إعتماد المصارف اللبنانية هو بالدرجة الأولى على ودائع المقيمين، فودائع غير المقيمين تتراوح بين 15 و20 بالمئة وهي نسبة لم تتغيّر في أيام السلم والحرب، وخلافاً للتصوّرات الخاطئة لم يشكّل لبنان ملجأ للودائع السورية والعربية، ودعامته الأساسية هي أموال اللبنانيين المقيمين وغير المقيمين.


MISS 3