باتريسيا م. كيم

الصين تبحث عن حلفاء

17 تشرين الثاني 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

لطالما كانت شبكة تحالفات الولايات المتحدة ركيزة أساسية لسياستها الخارجية، وقد أصبحت من أهم المزايا التي تفيد واشنطن في ظل احتدام المنافسة مع الصين في السنوات الأخيرة. شددت إدارة الرئيس جو بايدن على أهمية الحلفاء في استراتيجيتها تجاه آسيا، وعمدت في أول سنة من عهدها إلى تقوية التحالفات القديمة كتلك التي تجمعها مع اليابان وكوريا الجنوبية، وبذلت جهوداً كبرى لتعزيز الشراكات متعددة الجوانب، على غرار الحوار الأمني الرباعي (مع أستراليا والهند واليابان) وميثاق "أوكوس" الجديد (مع أستراليا والمملكة المتحدة).

انشغلت الصين من جهتها بتشكيل تحالفات رسمية بناءً على نظرتها المختلفة إلى العلاقات الدولية ورغبتها البراغماتية في تجنب مخاطر الاشتباك. لكن تبرز مؤشرات على بدء استنزاف مظاهر المقاومة الصينية. في السنوات الأخيرة، عمدت بكين إلى تحديث شراكاتها الاستراتيجية ووسعت تبادلاتها العسكرية وتدريباتها المشتركة مع دول مثل روسيا وباكستان وإيران. هذه الشراكات لا تزال بعيدة كل البعد عن التحالفات الأميركية التي تشمل بنوداً للدفاع المتبادل، واتفاقيات عسكرية واسعة النطاق، وقدرات عسكرية مشتركة. لكن قد تتحول تلك الشراكات مع مرور الوقت إلى ركيزة لشبكة التحالفات الصينية إذا اقتنع القادة الصينيون بأهمية هذه الشبكات لردع الخصوم وتفعيل العمليات في المنافسة المطوّلة مع الولايات المتحدة وحلفائها. سيشكّل هذا التطور نقطة تحوّل حقيقية في هذه الحقبة من المنافسة الأميركية الصينية ويُمهّد لنشوء عالم جديد ومقلق، حيث تتراجع العتبة التي تسمح باندلاع الاشتباكات الإقليمية والصراعات بين القوى العظمى.

تجنّبت الصين حتى الآن بناء شبكة تقليدية من الحلفاء لأسباب تتراوح بين نزعات إيديولوجية قديمــــة وحسابات استـــراتيجية صارمة. منذ أول أيام تأسيس الجمهورية الشعبية، سعت بكين إلى طرح نفسها كزعيمة للعالم النامي وداعمة لمبادئ حركة عدم الانحياز القائمة على عدم التدخّل ومعاداة الإمبريالية. لكن في السنوات الأخيرة، بدأ القادة الصينيون يؤكدون على تبنّيهم "نوعاً جديداً من العلاقات الدولية"، فباتوا يتجنبون سياسات القوة التقليدية ويفضّلون التعاون الذي يضمن المكاسب لجميع الأطراف. يهدف هذا النهج إلى ترسيخ الفكرة القائلة إن صعود الصين يُفترض ألا يخيف أحداً كونه عاملاً إيجابياً لتقدّم العالم وازدهاره، والتمييز بين بكين وواشنطن التي تتمسك "بعقلية الحرب الباردة البالية" برأي القادة الصينيين.

يعتبر القادة الصينيون القوة العسكرية أساسية لحماية البلد والمصالح الوطنية والمواطنين والاستثمارات الخارجية، لكنهم أثبتوا دوماً أنهم لا يميلون إلى عقد التزامات أمنية خارجية قد تجرّ بلدهم إلى صراعات مطوّلة.

لهذا السبب، فضّلت بكين تقديم القروض والاستثمارات والفرص التجارية، ومن المتوقع أن تكسب الأصدقاء والنفوذ من خلال التعامل مع أي كيان سيادي، بغض النظر عن طبيعته وسجله محلياً. أعطت هذه الاستراتيجية ثمارها. رحّب عدد كبير من شركاء الصين، لا سيما في الدول النامية، بالتزامات بكين ودعموا مصالحها الأساسية مقابـــل مساهماتها. إلى جانب الحوافز الاقتصادية، لجأت بكين إلى أسلوب الإكراه الاقتصادي أيضاً لمعاقبة الدول التي تتحدى مطالبها. هذا ما حصل مثلاً مع أستراليا التي تحمّلت رسوماً جمركية صينية كبرى على صادراتها بعد حظر شركة الاتصالات الصينية العملاقة "هواوي" من شبكاتها ودعم التحقيق الدولي حول أصل فيروس "كوفيد - 19".

حسابات بكين تغيّرت!


على المدى القريب، من المستبعد أن تتخلى الصين عن استراتيجيتها الجغرافية الاقتصادية لفرض هيمنة كاملة. لكن قد يدفعها سيناريوان محتملان إلى بناء شبكة حلفاء تحمل نوايا حسنة: إذا لاحظت بكين أن بيئتها الأمنية بدأت تتدهور لدرجة أن تتراجع المنافع مقارنةً بالتكاليف نتيجة تطبيق الاتفاقيات العسكرية الرسمية، أو إذا قررت أن تطيح بالولايات المتحدة كقوة عسكرية مُهيمِنة، لا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ فحسب، بل على مستوى العالم.

قد يتوصل القادة الصينيون إلى هذه الاستنتاجات إذا لاحظوا أن مصالح الحزب الشيوعي الأساسية (الحفاظ على سيطرته داخلياً، وفرض سلطته على شينجيانغ والتبت وهونغ كونغ) ومطالب السيادة في تايوان لا يمكن تحقيقها من دون عقد اتفاقيات دفاعية رسمية مع شركاء أساسيين مثل روسيا أو باكستان أو إيران. سبق وبدأت التقييمات الصينية تسير في هذا الاتجاه. غالباً ما تشير تعليقات بكين حول تعميق الروابط الصينية الروسية في السنوات الأخيرة مثلاً إلى توسّع "الحصار" الغربي كأول دافع لهذا التطور، وهي تُشدد أيضاً على ضرورة أن تتعاون بكين وموسكو للتصدي للتحالفات التي تقودها الولايات المتحدة. تُصِرّ بكين حتى الآن على عدم وضع الصين (هونغ كونغ) وروسيا في خانة "الحلفاء"، لكنها بدأت تؤكد على أن شراكتهما "غير محصورة في مجالات معينة" و"لا سقف محدداً لها".

منذ العام 2012، نفّذت الصين وروسيا تدريبات عسكرية واسعة ومتزايدة، منها تدريبات بحرية منتظمة في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، وقد شملت هذه التحركات أحياناً أطرافاً ثالثة مثل إيران وجنوب أفريقيا. في الشهر الماضي، تصدّر البلدان أيضاً عناوين الأخبار بعد تنفيذ أول دورية مشتركة في غرب المحيط الهادئ، فكتبت صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية الحكومية أن تلك العملية كانت تستهدف الولايات المتحدة التي "تتكاتف مع حلفاء مثل اليابان وأستراليا". قد يبقى نطاق الشراكة بين بكين وموسكو ضيقاً نتيجة تاريخهما الهش والحافل بالصداقات والمنافسات وبسبب الأهمية التي يعطيها البلدان للاستقلالية الاستراتيجية. مع ذلك، قد تعقد الدولتان اتفاقاً لتبادل المنافع، بدءاً من الدعم اللوجستي وصولاً إلى المساعدات المباشرة، بما في ذلك التحركات في المنطقة الرمادية أو العمليات العسكرية التقليدية إذا اقتنعت كل حكومة بأنها تواجه تهديداً وجودياً.

على صعيد آخر، يثبت دعم الصين "للدول المارقة" تغيّر مواقفها. بدأ القادة الصينيون مثلاً يتعاملون مع العلاقات بين الصين وكوريا الشمالية بطرق مختلفة جداً عن مواقفهم منذ بضع سنوات، حين حرصت بكين على إبعاد نفسها عن بيونغ يانغ. في شهر تموز الماضي، جدّد الحليفان معاهدة الدفاع المتبادل بينهما وتعهدا برفع تحالفهما إلى "مستوى جديد". وفي وقتٍ سابق من هذه السنة، وقّعت الصين أيضاً على اتفاق تعاون مدته 25 سنة مع إيران، ما يسمح لها بإطلاق مشاريع اقتصادية واستثمارات مقابل الحصول على النفط الإيراني. كذلك، تعهد البلدان بتعميق التعاون بينهما عبر التبادلات العسكرية المشتركة وتقاسم المعلومات الاستخبارية وتطوير الأسلحة. ثم دعمت الصين بعد فترة قصيرة طلب إيران للانتساب إلى "منظمة شنغهاي للتعاون"، بعد 15 سنة على تقديم الطلب الإيراني الأولي. يظن المحللون الصينيون أن بكين تجاهلت هذه المسألة لأكثر من عشر سنوات منعاً لإثارة استياء واشنطن وإعطاء انطباع مفاده أن "منظمة شنغهاي للتعاون" تهدف إلى التصدي للولايات المتحدة. لكنها قررت المضي قدماً حين استنتجت أن "سياسة الاحتواء" الأميركية تجاه الصين ستبقى قائمة.

لم يتّضح بعد إلى أي حد ستخضع هذه الشراكات "للتحديث" في المرحلة المقبلة، لكن تثبت التطورات الأخيرة أن رغبة بكين في عدم التورط مع دول مثل إيران وكوريا الشمالية، لأسباب استراتيجية وعوامل مرتبطة بصورتها أمام العالم، بدأت تتلاشى لأنها تلاحظ توسّع البيئة الخارجية العدائية، ما يعني زيادة حاجتها إلى كسب الحلفاء (ولا ننسى تأثير مسائل مختلفة مثل مصداقية هؤلاء اللاعبين وتشكيكهم بالصين، فضلاً عن عوامل أخرى تزيد الوضع تعقيداً). قد يستنتج القادة الصينيون في المستقبل القريب أن أفضل طريقة لحماية مصالحهم والتصدي لضغوط واشنطن وحلفائها تقضي بتحويل الصين إلى قوة عسكرية لا غنى عنها بالنسبة إلى شبكة حلفائها، كما فعلت الولايات المتحدة لأكثر من سبعين عاماً.

لكن لن تكون محاكاة القواعــد التاريخيـــة الأميركية مهمة ســهلة. في النهاية، أصبحت معظم اقتصـــادات العالم المتقدمة حليفة رسمية للولايات المتحدة. كذلك، يشكك الكثيرون حول العالم بنوايا الصين على المدى الطويل ونزعتها إلى فرض هيمنتها. ينطبق هذا الوضع أيضاً على أقرب شركائها في "مبادرة الحزام والطريق". في غضون ذلك، أوضحت دول عدة أنها لا تريد الانحياز إلى بكين أو واشنطن حصراً. لكن قد يتغير الوضع الراهن في أي لحظة. تسارع الصين اليوم إلى إقامة علاقات مع الاقتصادات المتقدمة والدول النامية، وهي تحاول تعميق الشرخ بين الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها. وحتى لو عجزت عن إقناع بعض اللاعبين بالانحياز إليها، قد تنجح في استمالة مناطق استراتيجية أساسية مثل شبه الجزيرة الكورية وأجزاء من جنوب شرق آسيا، فتضطر الدول هناك للتخلي عن روابطها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.

التحالفات لا تخلو من العواقب

تُعتبر الخطوات الكبرى التي اتخذتها إدارة بايدن لإعادة إحياء التحالفات الأميركية وزيادة مساهمات حلفاء واشنطن في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ أساسية في هذه الحقبة التي تشهد تغيّراً واضحاً في ميزان القوى والمنافسة الاستراتيجية. لكن حين يتعهد القادة الأميركيون بإعادة ابتكار تحالفات واشنطن والعمل على طرح "رؤية جديدة ومناسبة للقرن الواحد والعشرين" حول مفهوم "الردع المتكامل"، يجب أن يدرك بايدن أن بكين قد تطبّق المقاربة نفسها مع شركائها الاستراتيجيين.

لكن لا يعني ذلك أن واشنطن يجب أن تُبعِد نفسها عن حلفائها على أمل تحسين السلوك الصيني. في النهاية، سترتكز خيارات بكين بشكلٍ أساسي على رؤيتها الاستراتيجية وطموحاتها الخاصة. لكن من الأفضل أن تفكّر إدارة بايدن بتأثير نحاجها في حشد الأصدقاء على التهديدات التي تطرحها بكين واحتمال أن تنشأ شبكة معادية من التحالفات بقيادة الصين.

يجب أن يفكّر المعنيون ملياً اليوم بطريقة التعايش مع هذه النتيجة أو حتى منعها منذ البداية. يُفترض أن تشمل الجهود الرامية إلى تحقيق هذا الهدف ابتكار طرق تضمن تمسّك الصين بعلاقات مستقرة مع الولايات المتحدة وحلفائها والعمل على التواصل مع مجموعة واسعة من الدول، لا الديموقراطيات التي تحمل العقلية نفسها فحسب، كي لا تستنتج الجهات الواقعة خارج أوساط أصدقاء الولايات المتحدة التقليديين أن أفضل خيار أمامها، أو حتى خيارها الوحيد، يقضي بالاصطفاف مع بكين. ستكون البصيرة الاستراتيجية والخطط المدروسة أساسية لمنع الانجرار نحو عالمٍ منقسم بالكامل وخوض مواجهة ضد كتلة معارِضة تقودها الصين التي تزداد تورّطاً بشؤون الغير.


MISS 3