ميشال ويلبيك... قدرة خارقة على تنبّؤ الأحداث

00 : 57

كتب ميشال ويلبيك روايته الأخيرة Serotonin قبل حركة "السترات الصفراء"، ويَصِف فيها تدهور الريف الفرنسي المتسارع بعد محاصرته من الاتحاد الأوروبي والعولمة.

أصبحت خلفية رواية ميشال ويلبيك واضحة الآن: في هذه الحياة القاتمة التي تحمل طابعاً عدمياً في جوهرها، لا يمكن تخفيف أعبائها إلا عبر نسخة عدمية مشابهة من الفكاهة والجنس. منذ بداية رواية Serotonin، يتّضح أننا أمام عمل نموذجي لويلبيك. تتمحور القصة حول مضاد اكتئاب جديد يستعمله الراوي: "شملت أسوأ الآثار الجانبية الشائعة لعلاج "كابتوريكس" الغثيان وتراجع الرغبة الجنسية والضعف الجنسي. أنا لم أُصَب يوماً بالغثيان"!

تبرز أيضاً تلك العبارات المتفجرة الجانبية التي تُعتبر جزءاً من مظاهر التعصب الأعمى بنظر من لا يعرفون أن ويلبيك مصاب بنوع واحد من التعصب، ألا وهو النفور من الجنس البشري عموماً. هاجم ويلبيك الهولنديين مرتين سابقاً حين كتب: "في هولندا سباق بين شعب انتهازي ومتعدد اللغات"؛ "هولندا ليست بلداً، بل شركة في أفضل الأحوال". يبدو الراوي في Serotonin نسخة نموذجية من الكاتب، ما يعني أنه يتماهى لأقصى حد مع ميشال ويلبيك.

"فلوران كلود لابروست" رجل في أواخر الأربعينات من عمره، انتحر والداه سوياً. هو يكره اسمه ولا أصدقاء له، ويعمل في وزارة الزراعة، ويمقت باريس حيث يعيش. يتكلم عن سيارته قائلاً: "ربما لم أقم بأي شيء مفيد في حياتي، لكني ساهمتُ على الأقل في تدمير الكوكب".

لا يَكُنّ "لابروست" إلا مشاعر النفور والازدراء تجاه حبيبته اليابانية. سرعان ما يكتشف أنها كانت تخونه، فيقرر أخيراً الانفصال عنها، ويستقيل من عمله، ويغادر شقته المستأجرة لاتخاذ وجهة مختلفة في حياته: "أنهيتُ تفريغ مكتبي خلال أقل من عشر دقائق. كانت الساعة الرابعة تقريباً. في أقل من يوم واحد، أعدتُ برمجة حياتي".

لكن تبقى خيارات أي حياة جديدة محدودة دوماً. إنها الألفية الثالثة في الغرب الذي "كان يُعرَف سابقاً بالكيان اليهودي المسيحي". يثبت هذا التاريخ أن "جميع الألفيات متشابهة، إذ يخوض الملاكمون فيها معارك كثيرة"، وتموت الحضارات، مثل ساكنيها، بسبب "التعب والاشمئزاز من الذات".

ينتقل "فلوران كلود" إلى فندق، حيث يجد الكحول طبعاً وجهاز تلفزيون. هو يأخذ مضادات اكتئاب ويزور الطبيب الذي يَصِف له علاجاً أقوى. مع اقتراب عيد الميلاد، يشعر الراوي بأنه يحتاج إلى الذهاب إلى دير لتجاوز هذه الفترة.

ثم يتجه بطل القصة إلى "نورماندي" حيث يزور "أيميريك" الذي لم يقابله منذ أيام الجامعة. لكن في الريف الفرنسي المحاصر من الاتحاد الأوروبي والعولمة، تدهور الوضع بشكلٍ ملحوظ. كتب ويلبيك هذه الرواية قبل حركة "السترات الصفراء" وأثبت مجدداً قدرته على تنبؤ الأحداث (كما في رواية Submission (الرضوخ)).

زوجة "أيميريك" هجرته وأخذت الأولاد معها. ولا يمكن الحفاظ على إرث المزرعة والمنزل إلا عبر بيع الأراضي باستمرار. لم يحقق المشروع الوحيد هناك النجاح المنشود (بناء مجموعة من الأكواخ الخشبية على طول الساحل). حين يغرق "فلوران كلود" في المشاكل، يعيش في واحد من تلك المنازل. لا يقيم معه هناك إلا مراقب طيور ألماني لكنه يفضّل تغيير مساره وإطالة طريقه لربع ساعة إضافية كي لا يقابله. سرعان ما يتّضح أن ذلك الألماني يتحرش بالأطفال. على غرار جميع العلاقات البشرية الأخرى، يعتبر ويلبيك أن العلاقات بين الأولاد والراشدين انهارت في هذا الزمن بطريقة لا يمكن إصلاحها.

كان "فلوران كلود" سابقاً على علاقة مع امرأة اسمها "كاميل". بعد عشرين سنة على خيانته لها، يبدأ البحث عنها وملاحقتها. لديها ابن الآن: "كان يسهل أن أتوقع ذلك. النساء ينجبن الأطفال أحياناً". لكن لا يمكن إصلاح الماضي. مع اقتراب نهاية القصة، يعرض الكاتب خيالاً مريراً مستوحى من الروائي توماس مان ويتوصل إلى استنتاج مهم:

"طوال سنوات بعد انفصالي عن كاميل، قلتُ لنفسي إننا سنلتقي مجدداً، عاجلاً أو آجلاً، واقتنعتُ بأنه حدث حتمي لأننا أحببنا بعضنا واحتجنا بكل بساطة إلى مداواة جروحنا، كما يُقال، لكننا كنا لا نزال في مرحلة الشباب حينها وكانت الحياة أمامنا. أما اليوم، ألتفتُ من حولي وأدرك أن الحياة انتهت وقد تجاوزتنا من دون أن تعطينا مؤشرات واضحة، ثم استرجعت ما أعطتنا إياه بكل هدوء وتكتّم وأناقة وأدارت ظهرها لنا. حين نُدقق بما حصل عن قرب، ندرك أن حياتنا لم تكن طويلة جداً".

يكتب ويلبيك بأسلوب سهل وفكاهي وبسيط ظاهرياً. لكن كم كاتب من آخر يستطيع أن يجعلنا نتألم ونضحك ونتابع القراءة؟ يستحق ويلبيك سمعته كأكثر روائي يفهم عصرنا هذا ويمقته ويمثّله بأفضل طريقة!


MISS 3