ميشال ويلبيك يبحث عن معنى الحياة في الريف الفرنسي في روايته الأخيرة بطل آخر يُفتّش عبثاً عن الأمل...

11 : 01

كانت الرواية الجديدة Serotonin للكاتب الفرنسي ميشال ويلبيك لتبدو ممتعة لو أنها لم تكن حزينة لهذه الدرجة. تتمحور القصة حول رجل في منتصف الأربعينات من عمره اسمه "فلوران كلود لابروست". هو يوشك على الانهيار ويشعر باكتئاب عميق لأسباب تبدأ من اسمه وتمتد إلى كل جانب من حياته (يقول ويلبيك إنه "لا يجد أسباباً لمتابعة العيش لكن لديه أسباب للموت"). نتيجةً لذلك، يتحرر "لابروست" من علاقته غير المُرضِية مع حبيبته اليابانية البالغة من العمر 26 عاماً، ويترك مهنته كمحلل لمبيعات المشمش في وزارة الزراعة الفرنسية ويصبح "مفقوداً بكامل إرادته". فيتجول في الريف بحثاً عن سبب مبهم للمضي قدماً وتجديد تواصله مع شغفه القديم. لكنه يكتشف اقتصاداً ومجتمعاً في حالة من الانهيار البطيء.

"لابروست" هو ضحية توقعاته الخاصة وإخفاقاته العاطفية الماضية. وعلى غرار الأبطال الآخرين في قصص ويلبيك، بدءاً من Submission to Platform (التقدم من المنصة) وصولاً إلى The Elementary Particles (الجسيمات الأولية)، يكون بطل هذه القصة رجلاً فاشلاً ومتخبطاً من الناحية الجنسية، وقد فشل في تحقيق أي نوع من الإنجازات الدائمة أو اكتشاف معنى الحياة. هو يشعر بندم شديد لأنه خسر الحب الحقيقي. يروي بأسلوب مؤثر فشل أهم علاقة عاطفية في مرحلة سابقة من حياته قائلاً: "أظن أنني كنت خائفاً أصلاً، وكنت مقتنعاً حينها بأن المجتمع آلة لتدمير الحب".

يشكك "لابروست" بالاتحاد الأوروبي ولديه رهاب قوي من الهولنديين، ويبغض لامبالاة المجتمع وعدم أهميته فيه. حتى أن ويلبيك يعتبر عنصر السيروتونين علاجاً كيماوياً مزيفاً للمشاكل المستعصية التي يواجهها الغرب في حقبة ما بعد الحداثة، لأنه "يُحوّل الحياة إلى سلسلة من الشكليات".

تبدو رواية Serotonin غامضة بقوة أجوائها اليائسة وبغيضة بأنينها المطوّل. يقدم ويلبيك هذه المظاهر كلها بأسلوب لامع، لكن ألم يجد مواضيع أخرى تستحق الاستكشاف؟



في الوقت نفسه، هل يمكن أن نقرأ قصة رجل مهووس بالجنس يستعمل كلمات مثل "فلسفة الحياة" إلا في مؤلفات ويلبيك؟ ومن غيره يستطيع أن يشيد بفرانشيسكو فرانكو بأسلوب ساخر نظراً إلى مساهماته في قطاع السياحة الإسبانية؟

لا أحد ينجو من كره ويلبيك، بما في ذلك مدينة باريس ("تلك المدينة يجتاحها برجوازيون من أصدقاء البيئة")، والعلاقات بين اليابانيين وأصحاب البشرة البيضاء ("أن تعاشر فتاة يابانية رجلاً غربياً هو أشبه بمضاجعة حيوان")، والمستهلكون ("المستهلك كائن وضيع ومتهور")، والكهنة ("حين يجد الكاهن حباً صادقاً، يجب أن يلتزم الصمت، هذا ما أردتُ قوله له؛ ما الذي يعرفه هذا الغبي عن حب والديّ"؟)، والأطباء النفسيون ("بشكل عام، الأطباء النفسيون يثيرون اشمئزازي")، والأجور غير العادلة ("لم يسبق أن ارتكز أي مجتمع بشري على أجر عادل، ولا يُفترض أن يرتكز أي مجتمع شيوعي مستقبلي عليه؛ بنظر ماركس، انحصر مفهوم توزيع الثروات على معادلته الفارغة بالكامل: "على كل شخص أن يحصل على حاجته"!). تكثر المشاعر الساخرة والمهينة على مر الكتاب.

مع توسّع احتجاجات حركة "السترات الصفراء" في فرنسا منذ أكثر من سنة، نشعر بأن القصة التي يطرحها ويلبيك عن مشاكل الريف، بكل جوانبها القاتمة، ظهرت في الوقت المناسب. بدل عيش حياة أكثر بساطة، يكتشف "لابروست" خراباً اقتصادياً في الريف الفرنسي. يتكلم صديقه القديم من أيام المدرسة، "أيميريك"، عن المشاكل المادية التي تواجهها عائلته في مزرعتها: "لا نستطيع تحمّل هذه الخسارة المالية كل سنة. إذا كنا نصمد مادياً، يعود ذلك حصراً إلى تأجير الأراضي وبيعها... في السنة الماضية، بعتُ 50 هكتاراً إلى مجموعة صينية. كانت مستعدة لشراء عشرة أضعاف تلك المساحة ودفع ضعف سعر السوق. لا يستطيع المزارعون المحليون مضاهاة هذا العرض: هم يجدون صعوبة أصلاً في تسديد قروضهم ودفع إيجاراتهم".

يأخذ "لابروست" أدوية لقتل مشاعره ويعاني من ضعف الانتصاب، فيشكّل رمزاً لمجتمع متهالك يبحث عن جذوره ومعنى وجوده. يهاجم ويلبيك بشكلٍ متكرر الديموقراطية الليبرالية المعاصرة، كما يفعل في جميع كتبه، فيقارنها بالتدهور الفردي: "هكذا تموت الحضارات؛ من دون مخاوف أو مخاطر أو أحداث درامية وبأقل قدر من المجازر؛ تموت الحضارة من التعب والاشمئزاز الذاتي. ما الذي تستطيع الديموقراطية الاجتماعية تقديمه لي"؟

يتّسم أسلوب النثر الذي يقدّمه ويلبيك بظاهرة لافتة، فهو حماسي وبسيط من جهة، ومقيت وبذيء ونافر من جهة أخرى. ربما يريد الكاتب إزعاج القارئ! إنه هدف أساسي في جميع كتبه. بشكل عام، لا يُعتبر أبطال قصصه محبوبين ولا يكسبون التعاطف بسهولة، ولن يكون Serotonin استثناءً على القاعدة (مع أن القارئ قد يتعاطف قليلاً مع حياة "لابروست" الشاقة). على صعيد آخر، يثير ويلبيك تعاطف القرّاء مع عدد كبير من العالقين في حكاية "لابروست" المأسوية، بما في ذلك رفيقه القديم "أيميريك" والمزارعون في محيطه، حيث ترتفع معدلات الانتحار وتنشأ انتفاضة مسلّحة يائسة لمحاولة منع هبوط أسعار الحليب والمطالبة بسياسة حمائية.يُذكّرنا انهيار "لابروست" بسبب غياب المتعة في حياته بانهيار بطل القصة في Submission to Platform.

يقول "لابروست" متذمراً: "كنت أرغب طبعاً في أن أكون سعيداً وأن أصبح جزءاً من مجتمع سعيد – جميع البشر يرغبون في ذلك - لكن أصبح هذا الهدف غير وارد بأي شكل في هذه المرحلة".

في النهاية، يمكن اعتبار Serotonin كتاباً قوياً ومؤثراً، ولو أنه مثير للاشمئزاز في بعض جوانبه. هو يتناول معنى الحب الحقيقي ويعتبر اللحظات القيّمة نادرة الوجود، لذا تصبح الحياة ميؤوساً منها لأقصى الدرجات في حال تفويت أي نوع من تلك اللحظات. بغض النظر عن صوابية هذه الأفكار، قد يحتاج القرّاء إلى دفعة من السيروتونين بعد طيّ الصفحة الأخيرة من الكتاب!