المعركة على الخرطوم تثبت تلاشي النفوذ الأميركي

02 : 00

منذ أكثر من 15 سنة، حين قرر قادة السودان المتحاربون إنهاء أطول حرب أهلية في أفريقيا، اختاروا اللجوء إلى الولايات المتحدة، أهم قوة عظمى في العالم، كي تؤدي دور الوساطة لإرساء السلام. اليوم، أصبحت الولايات المتحدة مجرّد لاعبة بسيطة وغير حاسمة وسط لاعبين دبلوماسيين آخرين يحاولون حل أكبر أزمة سياسية تواجهها السودان منذ جيل كامل.

خلال الأسابيع التي تلت استيلاء القائد العسكري والجنرال السوداني، عبد الفتاح البرهان، على الحكومة الانتقالية السودانية عبر انقلاب عسكري، بقيت الولايات المتحدة على هامش الأحداث عموماً وانشغلت بخوفها من تفكك إثيوبيا المجاورة وتنافسها على النفوذ مع اللاعبين الإقليميين الآخرين، وواجهت انقسامات داخلية حول طريقة الرد على الجنرالات السودانيين.

تشكّل أزمة السودان انعكاساً لطبيعة الدبلوماسية الأميركية الفوضوية والمعقدة وتؤكد على تلاشي عصر القوة الأميركية الأحادية. تسعى القوى الإقليمية الجديدة، بما في ذلك دول الخليج الغنية، ومصر، والصين، وحتى روسيا، إلى التأثير على أفريقيا بطرقٍ تتعارض مع المصالح الأميركية. تشكّل أزمة السودان أيضاً دراسة حالة حول عواقب تجاهل واشنطن لأفريقيا على مر العقود وتلاشي النفوذ الأميركي في أنحاء القارة، لا سيما في المسائل التي تدخل في صلب السياسة الخارجية الأميركية، بدءاً من نشر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وصولاً إلى الحرب على الإرهاب.

لا تزال الولايات المتحدة قوة عظمى، لكنها واجهت سلسلة من الانتكاسات المؤلمة في السودان خلال الفترة الأخيرة. لم يُعيّن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أي سفير في السودان، ولم يعيّن الرئيس الحالي جو بايدن سفيراً هناك رغم مرور سنة تقريباً على بداية عهده. كان مبعوث وزارة الخارجية الخاص إلى السودان وجنوب السودان، دونالد بوث، قد تنحى من ذلك المنصب. (تكثر التوقعات حول ترشيح المسؤول المخضرم عن مكافحة الإرهاب، جون غودفري، لمنصب السفير لكن لم يعلّق بايدن حتى الآن على هذا الموضوع).

في الشهر الماضي زار وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، كينيا خلال أول رحلة له ككبير الدبلوماسيين في فريق بايدن إلى أفريقيا. كانت السودان جزءاً من النقاشات الأساسية هناك، لكن لم يقصد بلينكن الخرطوم مع أنها كانت على مسافة رحلة قصيرة من مكان وجوده، ما أدى إلى تجاهل تقليدٍ التزم به جميع وزراء الخارجية السابقين تقريباً.

تعود أزمة السودان الراهنة إلى الاحتجاجات المدنية التي اندلعت في كانون الأول 2018 وسرّعت رحيل الدكتاتور السوداني عمر البشير الذي سقط من جراء انقلاب بعد ثلاثة أشهر، فانتهى بذلك حُكمه الذي دام 20 سنة. وبعد مرور ثلاثة أشهر أخرى، وقّع المجلس العسكري الانتقالي في السودان على اتفاق لتقاسم السلطة مع تحالف مدني، فأصبح المجال مفتوحاً أمام الانتقال إلى الديمقراطية عبر انتخابات عامة في العام 2022. مهّد هذا الاتفاق لعقد شراكة مدنية عسكرية مختلطة. برز اسمان أساسيان في هذه العملية: عبد الفتاح البرهان الذي ترأس مجلس السيادة السوداني، وعبدالله حمدوك، خبير اقتصادي سابق في الأمم المتحدة أصبح رئيس وزراء الحكومة الانتقالية في السودان.

أطلق البرهان انقلاباً عسكرياً في 25 تشرين الأول، واعتقل حمدوك وعدداً من الأعضاء المدنيين في حكومته، وقمع المحتجين بعنف. هذه الممارسات دفعت العواصم الغربية إلى إطلاق مواقف صارمة، بما في ذلك الولايات المتحدة التي طالبت بإطلاق سراح حمدوك وإعادته إلى منصبه. لكن احتارت واشنطن بين معاقبة البرهان بجولة جديدة من العقوبات أو التعاون معه لإعادة إطلاق العملية الانتقالية السياسية في البلد. حتى الآن، امتنعت الولايات المتحدة أيضاً عن وضع استيلاء البرهان على السلطة في خانة "الانقلاب".

في 21 تشرين الثاني، عقد البرهان تسوية مع حمدوك، فعاد هذا الأخير إلى منصبه كرئيس الحكومة وأُطلِق سراح بعض المعتقلين السياسيين. لكن منحت تلك التسوية السلطة العسكرية صلاحيات متزايدة لملء الحكومة الجديدة بشخصيات موالية لها. سارع قادة الحركة الاحتجاجية السودانية إلى استنكار ذلك الاتفاق الذي أُبرِم بعد أيام على زيارة مولي في، مساعدة وزير الخارجية الأميركية للشؤون الأفريقية، إلى الخرطوم، ما يزيد التكهنات حول موافقة واشنطن على تلك الصفقة. لكن يقول عدد من الدبلوماسيين إن أحداً لم يستشر الولايات المتحدة حول الاتفاق النهائي ولم توافق واشنطن على دعمه أصلاً.

قوبل الاتفاق السياسي بمعارضة قوية من المحتجين المنادين بالديمقراطية وأدى إلى إضعاف مكانة حمدوك السياسية في السودان.

يقول خالد عمر يوسف، وزير مرموق في حكومة حمدوك كان قد تعرّض للضرب والاعتقال من جانب الحكومة في بداية الانقلاب، إن الشعب السوداني يشعر "بخيبة أمل" لأن ذلك الاتفاق قوبل بترحيب حذر من المجتمع الدولي: "هذا الاتفاق ليس قابلاً للاستمرار ويصعب أن يدوم طويلاً. معظم الناس في السودان يعارضونه. هم يناضلون في الشارع الآن لمقاومة هذا الانقلاب ومعارضة الاتفاق".

يضيف يوسف الذي خرج من الاعتقال كجزءٍ من الاتفاق الذي أبرمه حمدوك مع البرهان: "تملك الولايات المتحدة القوة والنفوذ أكثر من أي جهة دولية أخرى. لكن فشلت واشنطن في استعمال نفوذها بدرجة كافية. الشعب يتوقع منها المزيد. يظن الناس أن الولايات المتحدة تستطيع القيام بالتزامات مفيدة في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ السودان إذا كانت ترغب في ذلك".

في المقابل، يقول متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية: "نحن نعرف بحصول المفاوضات وندعمها، لكن لم تُسهّل الولايات المتحدة النقاشات بين رئيس الوزراء حمدوك والجنرال البرهان ولم تلعب دور الوساطة بينهما".

كتب هذا المتحدث رداً على الأسئلة الموجّهة له: "رغم شوائب الاتفاق، تبقى عودة رئيس الوزراء حمدوك إلى منصبه أفضل من استمرار الحُكم العسكري بالكامل، لا سيما في ظل حملة القمع العنيفة التي تقودها قوى الأمن ضد المحتجين السلميين".تكلم هذا المسؤول شرط عدم الإفصاح عن هويته وقال إن الولايات المتحدة ستتابع الضغط على الجيش كي يدعم العملية الانتقالية نحو حكومة مدنية، ويطلق سراح المعتقلين السياسيين، وينهي حال الطوارئ، ويضع حداً لأعمال العنف ضد المحتجين السلميين: "سنتابع بذل الجهود اللازمة لدعم رغبة الشعب السوداني في إرساء الديمقراطية. نحن نضغط أيضاً على الجيش ومجلس السيادة كي ينفذا وعدهما بعدم التدخل في عمل الحكومة وإعادة إحياء الحوار كي تشمل العملية الانتقالية أطرافاً متزايدة".

على صعيد آخر، هاجم ناشطون في الخرطوم المسؤولين الأميركيين لأنهم اكتفوا بالتواصل مع الجيش والسياسيين ولم يتواصلوا مع جماعات المقاومة أو الناشطين الداعمين للديمقراطية، علماً أن هذه الجهات بالذات كانت قد لعبت دوراً أساسياً في تأجيج الانتفاضة التي أسقطت البشير. لكنهم أشادوا في المقابل بفرعٍ آخر من الحكومة الأميركية كونه دعم المحتجين المنادين بالديمقراطية: الكونغرس الأميركي.

بدأ المشرّعون الأميركيون يضطلعون بدور ناشط في سياسة السودان للتعويض عن الفراغ الدبلوماسي الواضح في السلطة التنفيذية، لا سيما السيناتور بوب منينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، والسيناتور جيمس ريتش، كبير الجمهوريين في اللجنة، والسيناتور الديمقراطي كريس كونز، والنائب الديمقراطي غريغوري ميكس، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي.

اتخذ المشرّعون موقفاً أكثر صرامة من المسؤولين في الإدارة الأميركية. عبّرت مولي في عبر تويتر مثلاً عن أسفها إزاء أعمال العنف والخسائر البشرية في السودان بعدما أقدمت قوى الأمن على قتل أكثر من 12 محتجّاً يومياً بعد مغادرتها الخرطوم. ردّ ريتش على تلك التغريدة برسالة أكثر قوة وقال إن تلك المجزرة "تُضاف إلى قائمة الحوادث المأسوية التي يرتكبها القادة العسكريون السودانيون وتثبت استحالة الوثوق بهم أو تسليمهم مسؤولية حماية الشعب وحُكم البلد". أما كونز، فقد تطرّق إلى بندٍ من مشروع قانون تفويض الدفاع الذي يطالب واشنطن بمعاقبة مهندسي الانقلاب.

يقول كاميرون هادسون، مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات المركزية ودبلوماسي متخصص بشؤون شرق أفريقيا في المجلس الأطلسي: "هذه المواقف كانت بمثابة تحذير لمنع الجيش من متابعة ما يفعله، وقد ساهمت على الأرجح في إقناع البرهان بإعادة حمدوك إلى منصبه. من الواضح بالنسبة لي أن أكبر الضغوط لم تصدر من وزارة الخارجية الأميركية، بل من الكونغرس. هذه المواقف تبقى أقوى من جميع التعليقات الصادرة عن وزارة الخارجية اليوم".

أدى فك الارتباط الدبلوماسي من جانب الولايات المتحدة إلى فتح المجال أمام قوى إقليمية منافِسة تريد تحقيق مصالحها في السودان، وهي تصطف في معظمها إلى جانب قيادة الجيش السوداني.

برأي القوى الخليجية، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، تشكّل السودان "سلة غذاء" أساسية، وهذا ما يفسّر زيادة الاستثمارات في قطاع الزراعة وتوثيق العلاقات الأمنية لمراقبة جهود إيران الرامية إلى استعمال الخرطوم كمعقــل لنقل الأسلحة إلى عملائها في المنطقة.

في السنوات الأخيرة، أرسل الجيش السوداني آلاف القوات العسكرية إلى اليمن للقتال نيابةً عن السعودية والإمارات في حربهما ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران. وفي ليبيا، حاربت القوات السودانية شبه العسكرية المعروفة باسم "قوات الدعم السريع" برئاسة الجنرال محمد حمدان دقلو الملقّب بـ"حميدتي" (مسؤول بارز في الحكومة الجديدة) إلى جانب الجيش الوطني الليبي برئاسة خليفة حفتر المدعوم من مصر والإمارات وروسيا.

يقال إن مصر، التي تحافظ على وجود استخباري واسع في الخرطوم، لديها تأثير هائل على الجيش السوداني. قال مسؤول سوداني كان يعمل في حكومة حمدوك الانتقالية قبل أن يقيله البرهان بعد الانقلاب: "المصريون هم الذين يتخذون القرارات الحاسمة. أما الولايات المتحدة، فهي لا تزال تملك نفوذاً كافياً لمراقبة طموحات حلفائها، بما في ذلك إسرائيل والسعودية والإمارات. لكنّ الوضع مختلف مع مصر".

في غضون ذلك، انضمّت السودان إلى مجموعة صغيرة من الدول العربية التي وقّعت على "اتفاقيات أبراهام" التاريخية لتجديد العلاقات مع إسرائيل، منها البحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة. وحتى قبل التوقيع على ذلك الاتفاق، أجرى رئيس الوزراء الإسرائيلي في تلك الفترة، بنيامين نتنياهو، اجتماعات سرية مع البرهان الذي كان لاعباً أساسياً في محادثات تطبيع العلاقات بين تل أبيب والخرطوم في آخر سنتين. استنكرت الأمم المتحدة والحكومات الديمقراطية في الغرب استيلاء الجيش على السلطة وعبّرت عن دعمها لإعادة إحياء الحكومة الانتقالية بقيادة شخصيات مدنية، لكن لم تتخذ إسرائيل موقفاً مشابهاً.

وفق تقرير أولي نشره الموقع الإخباري الإسرائيلي Walla! NEWS، زار أعضاء من الموساد قادة الجيش السوداني سراً بعد الانقلاب. التقى هذا الوفد مع عبد الرحيم حمدان دقلو، نائب قائد القوة شبه العسكرية التي شاركت في الانقلاب، لمناقشة تأثير انقلاب الجيش على مساعي تطبيع العلاقات بين البلدين. كذلك، كان دقلو جزءاً من وفد عسكري سوداني زار إسرائيل قبل أسابيع من وقوع الانقلاب. وفي إشارة إلى تنامي النفوذ الإسرائيلي في السودان، شجّع بلينكن وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس على استعمال نفوذ الحكومة وسط الحكام العسكريين في السودان لإنهاء الانقلاب واسترجاع القيادة المدنية. برأي هادسون، كان وصول مجموعة جديدة من صانعي القرارات إلى المنطقة وغياب القيادة الأميركية هناك نتيجةً لتخبّط الجهود الدبلوماسية طوال عقدَين من الزمن: "تركت الولايات المتحدة فراغاً وراءها فعلاً، لكن نشأت في الوقت نفسه منافسة بين اللاعبين الجدد، وهم يضطلعون الآن بدورٍ أكبر بكثير. يبدو أننا أصبحنا أقل قدرة على تحديد النتائج وكبح الجهات الخبيثة. إنه انقلاب على 20 سنة من الاستثمار الدبلوماسي".


MISS 3