ريتا بولس شهوان

"سنبقى نركض خلف الدولار في نيجيريا حتى نعود محمّلين"

إبتزاز "المغترب" عاطفياً إستثمار مثمر

4 كانون الثاني 2022

02 : 00

غالي الوطن غالي

لا يعاني المغترب اللبناني في الغربة، الا من عدم الإكتراث به وبعائلته المقيمة في لبنان، فتراه ناشطاً عبر تطبيق "كلوب هاوس"، مناقشاً الشاردة والواردة، ليس لأنه يبحث عن دور سياسي ما، بل لانه حتى هو الهارب من ظروف بلده، مستنزَف. متأملة الدولة اللبنانية بالمزيد مع اعلان وزير الاشغال العامة والنقل علي حميّة الى ان "عدد الطائرات التي وصلت إلى لبنان قد بلغت 66 طائرة". فلماذا يأتي هؤلاء وهم يعرفون بأنهم بمنزلة "البقرة الحلوب" بالنسبة إلى الدولة اللبنانية، التي لا يمكن الاستغناء عنها اقتصادياً، حتى الرمق الأخير، بحيث يبدأ الدفع منذ الرسوم على الحوالات المالية عبر الشركات المتخصصة بهذه الخدمة، التي تقتطع مبلغاً لا يستهان به من المرسل، كما من المرسل اليه، وهي ليست حال كل عملاء الشركات هذه في مختلف الدول.

يسهّل وسيم (مغترب من نيجيريا من سكان بيت شباب - المتن) على نفسه قراءة الاجراءات التي اصبحت روتينية لرصد كورونا من شدة الشوق الى عائلته الصغيرة، كأنك تطلب حضور مؤتمر اونلاين "ما منلحق طلبات الكترونية، بعدها بي سي آر" حتى اصبح اللقاح كانه بحكم غير الحاصل اذ اننا ملزمون بالدفع على كل الاجراءات، على حد تعبيره.

بين المغترب والأزمة الاقتصادية مسافات بالدولار، يمضي وسيم من اجلها لياليه ليحصّلها في نيجيريا ليزور احباءه في بلده الام، اذ ان حسابه المصرفي شبه معلق كون المصارف لا تميز بين مغترب وبين مواطن على الاراضي اللبنانية، فيشعر انه يعمل في الاغتراب من الصفر، كأنه الآن وصل الى بلاد الاغتراب فيهمس: "سنبقى نركض خلف الدولار في نيجيريا، حتى نعود محمّلين". مع ذلك لا يرحم نفسه عند زيارة وطنه الام فطلبات العائلة زادت بسبب الحاجة اليه كسند. التمويه عن أطفاله وحبيبته هدف، خصوصاً فترة الاعياد، ان اقتصرت "ضهراته" على استئجار شاليهات في فاريا، اختلف ايجارها منذ شهرين الى الآن، اذ تلك التي كانت تؤجر بـ 30 دولاراً لليلة، تناهز اليوم في فترة الاعياد الـ 50 دولاراً. يلاحظ وسيم ان فقط فاتورة الهاتف مستمرة على سعرها القديم، اما تحويجة السوبرماركت ان اراد ان يستبدل أكل المطاعم بها، وهو الامر الحاصل نتيجة تفشي حالات التسمم، لن تقل فاتورتها عن الثلاثة ملايين ليرة بين أجبان، البان، وخضار. على الرغم من هذه الاوضاع المأسوية على المقيمين والتي يمكن تدبرها على جيبة المغتربين لن تمنعهم العودة.

سجعان ( اسم مستعار، من البترون مغترب في المانيا) كان في لبنان منذ شهرين عاش مع اهله كل مرحلة أزمة انقطاع البنزين، فكان يشحذ التنكة من شقيقه فقط ليزور رفاقه، وهو الدكتور في أهم جامعات المانيا حيث هناك تتحول تعبئة البنزين كأنك تطلب عبوة مياه. فكر بعدم العودة الى لبنان مراراً، لكنه اطمأن انه في هذه الفترة دولاراته ستلبي حاجة البنزين من المحطات، والا كان قد اكتفى بارسال مصروف الاهل والادوية المفقودة مع اصدقائه من اللبنانيين الآتين الى بلدهم الام. في المرة السابقة اشترى سجعان ادوية لكل اهل الضيعة في حقيبة واحدة واليوم زادت الكمية الى حقيبتين مقدراً ان ذلك لم يشكل له اي مشكل على المطار ولن يتهم بانه يتاجر بها.

تردّي الخدمات الصحية في مستشفيات لبنان وصعوبة ايجاد الادوية جعله يحجم عن الحجز لابنته الفرنسية الالمانية، اللبنانية الاصل من جهة الاب، سائلاً: ان لا سمح الله وقعت ارضاً وكسرت رجلها، بأبسط الحالات، كيف اطببها؟ لا يريد لابنته ان تتعرف على هذا الشق من لبنان، بلد والدها، وقد ينتظر اياماً افضل ليؤمن عليها بين اهل والدها. سجعان لا يأتي الى لبنان من اجل السياحة، فالمبالغ التي يصرفها في لبنان بين خدمات التنقل ان استاجر سيارة او استعارها، والمصاريف الاخرى لو صرّف الكثير من الدولار الى اللبناني، يمكنه ان يزور اجمل جزيرة اوروبية. الرابط المعنوي مع بلده الام الذي جعله يدرس في بلاد المانيا في أهم الجامعات تاريخ استشراق المتنورين الشيعة، وتأثيرهم على الادب وكيف كسروا الحصار عن مكة، وبحثه المستميت عن الوثائق في لبنان دفعه الى التكرار والاكثار من الزيارات، فهذا المعنى الذي يعطيه لبنان لحياته من الناحية الثقافية والسبيل لنجاحه في الغرب وطموحه ان يتوسع في الشرق.

العلاقة الثقافية في لاوعي الرجل المائلة الى العاطفية، دافع كثيرين من المثقفين اللبنانيين في الغرب، فحبيب، (اسم مستعار، من جبيل، طالب دكتوراه في فرنسا) كان يود ان يعيّد مع اهله في لبنان لكن قدراته المادية محدودة جداً، اذ ان عمله في فرنسا يكفيه فقط لمصاريف اطروحته، والاموال التي حولتها الجامعة اللبنانية له وقد حفظها في المصرف راحت هباء، ولا يمكنه ان يتكفل بالتيكيت، في موسم الاعياد اذ يكون اغلى في هذا التوقيت. اذا ليس كل المغتربين "العاطفيين" يملكون هذه القدرات ليعودوا او حتى قدرة الصبر على الظروف. فانطوان (كسروان) الساكن في دبي، يرفض فكرة "المعاناة" نتيجة انقطاع الكهرباء وتبعات الازمة، مفضلاً ان يقطع تيكيت لاهله لزيارته بدورهم و"يعيشوا يومين حلوين بدبي"، حاله كحال انطو (لبناني من برج حمود ارمني الاصل) المستقر في ارمينيا الذي يطل على اهله ليس اكثر فـ"لو كنت ازور لبنان من اجل المطاعم، لكنت تسممت مع تردي الخدمات السياحية ونوعية الطعام". هكذا على الدولة اللبنانية أن تعيد النظر بسياسة "البقرة الحلوب" مع المغتربين، والابتزاز العاطفي، متّكلين على الروابط العائلية، فهؤلاء ايضاً يعرفون بظروف لبنان التي هربوا منها بالتحديد.


MISS 3