أفضل الخطوات لردع روسيا

02 : 01

بعد مرور ثماني سنوات على غزو روسيا لأوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم بطريقة غير قانونية وفرض مجموعة من العقوبات الدولية، تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها مجدداً تحديد أفضل الطرق لمنع موسكو من تهديد أوكرانيا، أو حتى إطلاق عملية غزو شاملة، على أمل الاستفادة من تنازلات غربية جديدة. بدأت محادثات جدّية بين الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فطرح هذا الأخير مطالب قصوى قد تصبح نقطة بداية لخوض مفاوضات مطوّلة والتوصل إلى حل وسط، أو حجّة لتصعيد الوضع في الصراع المقبل في حال عدم تلبية تلك المطالب.

حذّر القادة الأميركيون والأوروبيون بوتين، علناً وفي الأوساط الخاصة، من أنهم لن يترددوا في توسيع العقوبات ضد روسيا إذا أطلقت قوات عسكرية نحو أوكرانيا مجدداً. وفق مصادر مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، وجّه بايدن تحذيراً للرئيس الروسي خلال مؤتمر الفيديو الذي جمع الرئيسَين طوال ساعتين في 7 كانون الأول، فقال: "نحن مستعدون اليوم لاتخاذ الإجراءات التي لم نتخذها في العام 2014". كان تهديد بايدن لمحاوريه الروس واضحاً، وهو لا يترك أي مجال لحصول سوء تفاهم لاحقاً.

قد تكون العقوبات الاقتصادية مؤلمة بالنسبة إلى بوتين وأعوانه، لكنها لن تكفي وحدها لمنع الكرملين من استعمال التكتيكات التي أثبتت فاعليتها في الماضي. خلال السنوات التي تلت آخر مواجهة روسية كبرى مع الولايات المتحدة وحلفائها، طوّر بوتين مهاراته في ترهيب الآخرين عبر الحشد العسكري، وحملات التضليل، وخوض صراعات لا تصل إلى مستوى الحرب، لتخويف جيرانه ومتابعة زعزعة الغرب. على مستوى العقوبات، تبدو قوة تحمّل بوتين عالية ومرونته السياسية متينة. لقد زادت ثقته بتفوّقه على خصومه الغربيين. عملياً، لم يبقَ أي رئيس دولة خارجية في السلطة بعد دعمه لفرض العقوبات على بوتين غداة مغامرته في شبه جزيرة القرم.

لردع بوتين، يجب أن يقنعه الأميركيون وحلفاؤهم بأن استفزازاته ستُقابَل بردّ عسكري قد يُضعِف أثر تكتيكاته القسرية المفضلة ويكبح قدرة روسيا على انتزاع التنازلات من جيرانها. يستطيع الأميركيون وشركاؤهم أن يزيدوا ثقة حكومات الدول المجاورة بقدرتها على صدّ المضايقات الروسية، ونسف قناعة بوتين بافتقار خصومه الغربيين إلى الوسائل الفاعلة أو الرغبة في مقاومة أعماله العدائية، عبر تقوية قدراتهم العسكرية في أوروبا وتوسيع وجودهم في محيط روسيا.

الغرب لم يكن جاهزاً

كان الغزو الروسي لأوكرانيا حدثاً صادماً للولايات المتحدة وحلفائها. تراجع تركيز التحالف على التهديدات الإقليمية التي يواجهها الحلفاء الأوروبيون خلال السنوات التي تلت اعتداءات 11 أيلول. أنا شخصياً حضرتُ اجتماعاً لوزراء دفاع الناتو في بروكسل في شباط 2014، وقد سرت حينها أولى الشائعات حول تسلل "الرجال الخضر الصغار" إلى شبه جزيرة القرم ولم يصدّقها قادة الناتو المجتمعون. خلال الساعات اللاحقة، وجدنا صعوبة في جمع معلومات دقيقة حول حقيقة ما يحصل في شبه جزيرة القرم.

تخبّط الأميركيون وحلفاؤهم قبل فهم نوايا بوتين، ثم بدؤوا يصحون من الصدمة وتعاونوا لفرض مجموعة تدابير لمعاقبة روسيا على أفعالها ومنع أي اعتداءات مستقبلية: كانت هذه الحزمة من العقوبات الاقتصادية والمالية مُصمّمة لمعاقبة بوتين من دون استفزازه، وحاولت في الوقت نفسه الحد من أي آثار محتملة على المصالح الغربية. لم تكن التدابير الجزئية الناجمة عن هذه الجهود تحمل تأثيراً قسرياً كبيراً على بوتين. في المقابل، خففت الدول الغربية مساعداتها العسكرية لأوكرانيا، فاقتصرت مساهماتها على تقديم مساعدات غير فتّاكة.

لكن دفعت تحركات بوتين العدائية بالولايات المتحدة والناتو إلى إطلاق برنامج مكثّف لتقوية الردع العسكري في أوروبا بعدما ضَعُف بدرجة لافتة غداة سحب القوات الأميركية وإغلاق القواعد العسكرية وتخفيض الإنفاق الدفاعي للحلفاء على مر السنوات. بدأت الولايات المتحدة تنشر قواتها في أوروبا مجدداً لطمأنة حلفائها حول استمرار التزامها بالدفاع عن الناتو. لكن تعمل القوات الأميركية هذه المرة بالتناوب ولن يكون انتشارها في القواعد الأوروبية دائماً كما حصل خلال الحرب الباردة. يتناوب فريقان قتاليان مدرّعان طوال تسعة أشهر في ألمانيا لتدريب القوات الحليفة في الخطوط الأمامية، بدءاً من البلطيق وصولاً إلى البحر الأسود. كذلك، دعّم حلف الناتو قواته التفاعلية السريعة ونشر فِرَقاً قتالية متعددة الأطراف في دول البلطيق وبولندا لاستعمالها كأسلاك شائكة ضد أي توغل روسي محتمل. في غضون ذلك، شجّعت الولايات المتحدة حلفاءها على زيادة إنفاقهم على الدفاع، وهذا ما فعلوه. بدأت واشنطن تقنع حلفاءها في الخطوط الأمامية بأنهم لن يضطروا لمواجهة الترهيب الروسي وحدهم.

لكن امتنع الغرب في العام 2014 عن إعادة تزويد الجيش الأوكراني بالمعدات العسكرية الفتاكة التي يحتاج إليها للتصدي لبوتين وردعه حين يفكر بتنفيذ غزو آخر. لم ترغب واشنطن في استفزاز بوتين أو المجازفة بإبعاده عن الجهود الدبلوماسية. أرسلت الولايات المتحدة ودول أخرى الأموال والمعدات غير الفتاكة وفِرَق التدريب إلى أوكرانيا، لكنها رفضت نشر أي قوات أو مجموعات قتالية، كما فعل أعضاء الناتو في البلطيق وبولندا. ونظراً إلى المساعدات العسكرية المحدودة التي تلقّتها أوكرانيا، أدرك بوتين أن الناتو لن يتجاوز هذه العتبة في دفاعه عن حليف غير منتسب إليه مثل أوكرانيا: كان الرئيس الروسي يستطيع أن يضايق جيرانه إذاً من دون أن يحاسبه أحد لأن الأميركيين وحلفاءهم لم يرغبوا في خوض الحرب من أجل حليف من خارج الناتو.

دروس مستخلصة من العام 2014


في ظل استمرار المحادثات بين بوتين والغرب، يفكر الكرملين حتماً بالدروس المستخلصة من أحداث العام 2014 أثناء تقييمه لتكاليف أي غزو آخر لأوكرانيا. كما حصل في ذلك العام، يدعم الأميركيون وحلفاؤهم في الناتو سيادة أوكرانيا عبر المواقف الكلامية، لكنهم لم يرسلوا بعد أي مساعدات فتاكة بارزة إلى البلد ولم يزيدوا قوة الجنود المنتشرين أصلاً في الدول الحليفة على طول الحدود مع روسيا منعاً لاستفزاز موسكو تزامناً مع تجدّد المحادثات.

إذا أثبت الاجتماع المرتقب في جنيف بين المسؤولين الأميركيين والروس أن روسيا لا تهتم بمنع تصعيد الوضع بل تستغل المحادثات لتبرير أعمالها العدائية، يجب ألا يهدر الغرب الوقت بل يسارع إلى تقديم مساعدات عسكرية فتاكة إلى أوكرانيا، بما في ذلك تكثيف الحصص التدريبية من جانب الفِرَق الأميركية وقوات الناتو. تستطيع الولايات المتحدة أن تقدّم المعدات اللازمة لنشر وحدة قتالية مدرّعة في غرب أوكرانيا، بما يشبه المجموعات المنتشرة أصلاً في الدول الحليفة، ولمساعدة الولايات المتحدة على تدريب القوات الأوكرانية. قد تصبح القوات والمدرعات الأميركية الميدانية في أوكرانيا (حتى لو كانت مهامها تدريبية) عامل ردع مؤثر، فتزيد تعقيد خطط الكرملين عبر المجازفة بخوض مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، وهو خيار لا يحبّذه بوتين.

لمنع روسيا من متابعة ترهيب دول أوروبية أخرى، يجب أن توضح الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو لبوتين أن الوضع مختلف هذه المرة، ويمكنه أن يتوقع من الناتو رداً يشمل تعزيزات عسكرية كبرى في أوروبا لزيادة ثقة جيران روسيا بأنفسهم وطمأنتهم إلى أنهم ما عادوا عرضة للتلاعب بسبب التهديدات العسكرية الروسية.

قد يترافق حشد القوات العسكرية مع عودة الفِرَق القتالية التابعة للقوات الجوية الأميركية والحليفة إلى القواعد الأوروبية التي أُقفِلت لفترة طويلة لكن أُعيد فتحها الآن. تؤدي هذه الخطوة إلى دعم القوات الميدانية الحليفة والمنتشرة بشكلٍ دائم في أوروبا وتزويدها بمدرعات إضافية وبطاريات الدفاع الصاروخي، وتقوية الأسطول السادس في البحرية الأميركية عبر تناوب مجموعة من الناقلات القتالية والمدمرات في شمال أوروبا. إذا اتخذت واشنطن وحلفاؤها هذه الخطوات فعلاً، ستزيد قوة الأمن الأوروبي بدرجة كبيرة، وقد يغيّر بوتين حساباته حول سهولة استعمال الترهيب العسكري للتلاعب بالآخرين.

لقد أوضحت الاستفزازات الروسية المستمرة أن العقوبات الاقتصادية التي فرضها الحلفاء الغربيون على روسيا بعد غزو أوكرانيا في العام 2014 لم تكن مجرّد نظام ردع غير مناسب، بل إنها أقنعت بوتين على الأرجح بأنه يستطيع الإفلات من العقاب. ستكون أي حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية الأكثر صرامة مفيدة شرط أن تترافق مع رد عسكري قوي. لا تستطيع العقوبات وحدها أن تكسر دوامة الترهيب والاستسلام التي تبقي عدداً كبيراً من المواطنين في الدول السوفياتية السابقة تحت سطوة بوتين. لا بد من إضعاف أداة الترهيب العسكري التي يفضّلها الرئيس الروسي عبر تجديد المكانة العسكرية لحلف الناتو والولايات المتحدة في أوروبا بما يضمن استرجاع ثقة تلك الدول بنفسها رغم الضغوط التي تواجهها وتقويتها لمجابهة استفزازات بوتين.


 جيم تاونسيند*

المساعد السابق لوزير الدفاع الأميركي لشؤون "الناتو"

MISS 3