شربل داغر

موسيقى بين الأصابع والعينين

17 كانون الثاني 2022

02 : 00

تفرجتُ، قبل أيام، على فيلم يستعيد القسم الأول من حياة الموسيقية النمسوية: ماريا تيريزا فون بارادي (1759-1824)، (Maria theresia von paradis).

لم أكن أعرفها قبل الفيلم. لكن ما عرفتُه، أقلقني للغاية لجهة العلاقة بين الجسد والفن.

فقدتْ ماريا تيريزا بصرَها بين الثانية والثالثة من عمرها، لكن موهبتها تأكدتْ في العزف على البيانو، وفي التأليف الموسيقي، وفي الغناء، وفي تعليم الموسيقى وغيرها. فكان أن خضعتْ لعلاجاتِ طبيبٍ، هو أقرب إلى مشعوذ، فصارت تستعيد بعض بصرها، فيما راحت تفقد بعض موهبتها الفنية.

اتسمتْ حياتُها، مثل أعمالها الموسيقية، ببعض الغموض، لكن حياتها الحافلة لم تكن حكاية متخيَّلة، بدليلِ جولاتها وعروضها في أكثر من بلاط ملكي في أوروبا، وبدليل علاقاتها الأكيدة بموسيقيي عصرها، ولا سيما: هايدن، وسالييري (الشهير في فيلم موزار)، وموزار نفسه، الذي وضع لها عملاً موسيقياً: الكونشيرتو الثامن عشر للبيانو.

عرضَ الفيلم القسمَ الأول من حياتها، واستكملتُ، في نبذات تعريفية عنها، التعرف إلى ما أصابها: الآنسة فون بارادي ستختار الغناء، وتتخلى عن بصرها. ستختار الموسيقى، وتتخلى عن رؤية العالم.

القرار فردي بطبيعة الحال، يخص كل فنان أو أديب بالضرورة. هذا ما يَصعب على فنان تشكيلي القيام به، أو على معماري، او على من يحتاج فنهم إلى حركة خارجية، وإلى عملٍ يدوي مبني على صحة العين.

هذا ما لم يُحرِج، بالمقابل، أبا العلاء المعري، ولا طه حسين، ولا خورخي بورخيس، في الأدب. إلا أن هؤلاء (وغيرهم) لم يختاروا العمى لصالح الأدب، بعكس الموسيقية النمسوية.

ما قامت به الفنانة مُربك، من دون شك، خصوصاً إذا تناولَه الواحد منا، وجعله خياراً بين الحياة والفن.

أفكر فيها، وأستعيد صور موسيقيين وعازفين كثر، إذ يجلسون أمام البيانو. فأرى بعضهم يعزف "عالعمياني"، إذا جاز القول، إذ يكاد أن لا يرى إلا أصابعه، بل يتابع في عقله، والذاكرة التي فيه، تنقلاته من دون حاجة إلى دفتر النوتات الموسيقية أمامه. وهو ما يعرفه كثير من المنشدين، من المؤذن إلى أم كلثوم وغيرهما، إذ نراهم يغمضون العينين، لكي يتابعوا تنقلاتهم في عالم علوي منخطفين إليه.

هذا ما اختارتْه فون بارادي، وأنتَ ماذا كنتَ ستفعل؟


MISS 3