المعادن الأرضية النادرة: صراع على وقود المستقبل

02 : 01

يعرف معظم الأميركيين أن اليابان هاجمت ميناء "بيرل هاربر" في العام 1941، لكن لا يفهم الكثيرون الأسباب الحقيقية التي مهّدت لذلك الهجوم المفاجئ. أصبحت طموحات اليابان المتوسعة والمتسارعة في العالم مُهددة حين فرضت الولايات المتحدة، لأسباب جيوسياسية، قيوداً على تصدير مادة خام أساسية تعجز الإمبراطورية اليابانية عن تأمينها وحدها: النفط. من باب اليأس، شعرت اليابان بأنها مضطرة لتأمين سلسلة إمدادات ضرورية عن طريق العنف الاستباقي. كانت العواقب العالمية لهذه الخطوة كارثية.

اليوم، تغيّرت طبيعة الموارد الضرورية لكن تبدو الظروف القائمة مشابهة على نحو مقلق. لكنّ الولايات المتحدة هي التي تواجه قيوداً شائكة هذه المرة. لقد أصبحت المعادن الأرضية النادرة مواد أساسية لا يمكن الاستغناء عنها كونها تُشغّل معظم مجالات التكنولوجيا المعاصرة. منذ العام 1985، تسيطر الصين بشكلٍ شبه كامل على سلسلة الإمدادات العالمية. في الولايات المتحدة، لطالما دعمت الرأسمالية المبنية على السوق الحر المنافسة في هذا القطاع على المصادر الخارجية مع الصين، وقد بدأت الحكومة للتو تدرك التداعيات الاستراتيجية الخطيرة لما يحصل.

في العام 2017، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً لطرح "استراتيجية لضمان إمدادات آمنة وموثوق بها من المعادن الهامة" واعتبرها "أساسية لتعزيز أمن البلد وازدهاره الاقتصادي". زادت نقاط الضعف في سلاسل الإمدادات هذه حين انتشر وباء كورونا، ثم كشفت التدابير الصحية غير المسبوقة الرهانات المكلفة التي ترافق مقاربة الاستعانة بمصادر خارجية صناعية وعواقب العولمة غير المقصودة. في العام 2020، اقترح السيناتور الأميركي تيد كروز "قانون المواد الخام" لدعم تطوير القدرات الأرضية النادرة محلياً. ثم أضاف الرئيس جو بايدن خلال أول شهرٍ له في السلطة هذا القطاع إلى ثلاثة مجالات أخرى واردة في مراجعة سلاسل الإمدادات الممتدة على مئة يوم.

لكن تأجّل البت بالتشريع المقترح في اللجنة المعنية بهذه المسألة، ثم بقيت استثمارات وزارة الدفاع في هذا القطاع قليلة وصغيرة نسبياً. على عكس النفط، استمر تدفق المواد والمنتجات الرخيصة من الصين، لذا لا تُعتبر المعادن الأرضية النادرة من الأولويات في أي بيئة سياسية تفتقر إلى رؤية ثاقبة.

يرتبط مستقبل الأمن الأميركي مباشرةً بأمن المعادن الأرضية النادرة. ويعني الفشل في تأمين الموارد اللازمة لمواكبة الابتكارات التكنولوجية العجز عن متابعة المنافسة العالمية. حصلت الصين على عقود عدة لتطوير هذه القدرة الصناعية الكبرى وحمايتها من المنافسين في السوق الحر العالمي. في هذه المرحلة، لن يتمكن القطاع الخاص وحده من تصحيح هذا الخلل. من دون تدخّل حكومي قوي ومبتكر واستباقي، تجازف الولايات المتحدة بمواجهة وضعٍ مشابه لما عاشته اليابان منذ ثمانين سنة.

أصبحت المعادن الأرضية النادرة جزءاً أساسياً من الحياة المعاصرة. تُعتبر الهواتف الخليوية، والحواسيب، وأجهزة التلفزيون، والسيارات من المنتجات التي لا يمكن الاستغناء عنها، ويُشغّلها المغناطيس الداخلي القوي المصنوع من العناصر الأرضية النادرة. كذلك، تتكل الأجهزة الطبية وأنظمة الاتصالات المعاصرة وعمليات الانتقال إلى مصادر الطاقة "الخضراء" والمستدامة على نسبة النجاح في استغلال هذه الموارد غير المتجددة، وتُعتبر المعادن الأرضية النادرة أساسية طبعاً لتطوير التكنولوجيا العسكرية.

يمكن اللجوء إلى مقارنة مألوفة لفهم الوضع. تسيطر منظمة "أوبك" على 41% من إنتاج النفط، وقد منحها هذا الامتياز نفوذاً جيوسياسياً هائلاً طوال عقود. هذا الاتكال الكبير على المنظمة دفع الولايات المتحدة إلى دعم تطوير سلاسل إمدادات بديلة. اليوم، لا وجود لأي استجابة مماثلة مع أن الصين تسيطر على 60% من المعادن الأرضية النادرة تقريباً، وتنتج 85% من الأكاسيد، وتُصنّع أكثر من 95% من المعادن الأرضية النادرة.

في ظل تصاعد التوتر في جنوب شرق آسيا، واستمرار الحرب التجارية، وزيادة الضغوط العالمية لمحاربة التغير المناخي بالتكنولوجيا "الخضراء"، بدأ احتمال نشوء أزمة عالمية يرتفع مع مرور الوقت. في هذه الظروف، لن تكون التدابير الديبلوماسية والاقتصادية كافية، بل تبرز الحاجة إلى التفوق العسكري وأنظمة الردع كي تتابع الولايات المتحدة الدفاع عن مصالحها.

زاد الوضع تعقيداً لأن قدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بتفوقها العسكري على الصين تتوقف بدرجة كبيرة على سلسلة الإمدادات الهشة نفسها. تُعتبر الأسلحة دقيقة التوجيه، وتقنيات التخفي، والطائرات بلا طيار، والأقمار الاصطناعية من أبرز العناصر الدفاعية الاستراتيجية التي تتكل على المعادن الأرضية النادرة. تحتوي كل طائرة من طــراز "ف - 35" (تتقاســمها 14 دولة حليفـة وتُعتبر محوريــــة في الحـــــــروب المستقبلية) على 420 كيلوغراماً من المواد الأرضية النادرة. سبق وأثبتت الصين أنها تستطيع التأثير على هذا التطور بطريقة مباشرة.

في العام 2020، ورداً على الاتفاق الدفاعي بين الولايات المتحدة وتايوان، هددت الصين بقطع إمدادات المعادن الأرضية النادرة عن ثلاث شركات أميركية لتصنيع المعدات الدفاعية، بما في ذلك شركة Lockheed Martin التي تنتج طائرات "ف - 35". لم تتحقق هذه التهديدات على أرض الواقع في نهاية المطاف، لكن أثبت هذا الموقف قوة الاحتكار الصيني والعواقب المكلفة التي تواجهها الولايات المتحدة وحلفاؤها. حتى أنه شكّل تحذيراً لأي بلد قد يفكر بتحدي السياسة الخارجية الصينية بطريقة غير مباشرة، وشجّع جميع الأطراف على تأمين سلسلة إمدادات مستقلة وموثوق بها من المعادن الأرضية النادرة.

لن تكون الولايات المتحدة أول دولة تتدخّل في قطاعها الصناعي رغم التاريخ الرأسمالي الذي تفتخر به. يتم اللجوء إلى هذه الخطوة في حالات كثيرة لتجديد استقرار القطاع الاقتصادي في زمن الأزمات أو تحقيق "المصلحة العامة" التي لا تضمنها قرارات السوق الحر دوماً. لكن غالباً ما يصبح التدخل الصناعي مقبولاً رداً على تهديد خارجي واضح.

بعدما أطلق الاتحاد السوفياتي القمر الاصطناعي "سبوتنيك"، مهّدت المخاوف الأميركية لبدء حقبة من الدعم الحكومي الهائل للقطاع الصناعي، فحصلت ثورة رقمية شملت ظهور شبكة الإنترنت المعاصرة. كذلك، شهدت "عملية سرعة الالتفاف" ومساعي إنتاج اللقاحات المضادة لفيروس كورونا مستويات هائلة من التدخّل ولم تواجه معارضة واسعة من الرأي العام.

بما أن الوضع الاقتصادي الثنائي بات يرتكز على الاعتماد المتبادل ويتأثر بالوضع الأمني الهش في بحر الصين الجنوبي، لا يسهل اعتبار الصين مصدراً للتهديد الخارجي علناً. ومن دون أن يفهم الرأي العام أهمية هذه الموارد الطبيعية، لن تكسب سلاسل إمدادات المعادن الأرضية النادرة الزخم السياسي اللازم لتحفيز الحكومة على اتخاذ خطوات كبرى.

يبدأ الحل بتوعية الناس حول هذا الموضوع، أي فهم أهمية تلك المواد ومخاطر الاحتكار الصيني. سيكون إعطاء الأولوية السياسية لهذه المسألة من مسؤولية الجهات التي تنظّم حملات التوعية والمسؤولين المُنتخَبين.

قد يتحوّل تمرير "قانون المواد الخام" الذي اقترحه السيناتور كروز إلى فرصة قيّمة لدعم الاكتفاء الذاتي في مجال المعادن الأرضية النادرة على المدى الطويل. بالإضافة إلى الحوافز الأساسية لشركات التصنيع، يشمل هذا القانون بنوداً خاصة بالأطراف التي تسعى إلى تحقيق شكل ثانوي من التعافي، أي جمع المواد من الأجهزة التي يُعاد تدويرها و/أو المخلفات الصناعية لزيادة المخزون الوطني الضروري. يسمح التشريع المقترح أيضاً بتحديث قانون أميركي سابق لكبح نزعة وزارة الدفاع الأميركية إلى جلب المعادن الأرضية النادرة من "دول غير حليفة" (بما في ذلك الصين) ودفعها إلى البحث عن حلول أخرى لتأمين سلاسل الإمدادات.

لكن لن تكون الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي تتأثر بالقيود المفروضة على إمدادات المعادن الأرضية النادرة، ومن الغباء أن تفكّر الدول بالحلول الوطنية حصراً. بالإضافة إلى تكثيف الاستثمارات لتطوير سلاسل الإمدادات المحلية، تستطيع الحكومة الأميركية أن تتخذ خطوات أخرى وتطلق جهوداً ديبلوماسية وتشريعية لدعم الشركات والأبحاث والابتكارات الدولية تمهيداً لإنشاء نظامٍ يضمن تقاسم الأعباء وتبادل المعلومات عن طريق التعاون بين الأطراف المعنية. بفضل الدعم الحكومي الجدّي وطويل الأمد لحملات البحث عن حلول مبتكرة تتجاوز الحدود الوطنية، يمكن تخفيف المخاطر المطروحة وزيادة قدرة الشركات على تحمّل تكاليف تطوير سلاسل الإمدادات واستكشاف الابتكارت على المدى القصير.

لم تستغل الصين تفوّقها الاستراتيجي بعد، فهي لا تستطيع اليوم أن تجازف بإبعاد كبار شركائها التجاريين ولا تريد أن تُشجّع المنافسة على تطوير سلاسل الإمدادات. لكن قد يتغير هذا الوضع في أي لحظة. شهد العام 1941 تحركاً يابانياً معزولاً وعنيفاً من باب اليأس بسبب المواد الخام الأساسية. ونظراً إلى التقدم الحاصل في التكنولوجيا العسكرية المعاصرة وترابط الاقتصادات العالمية اليوم، سيترافق أي رد مشابه الآن مع عواقب لا تُعَدّ ولا تُحصى.

الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي تواجه هذا الوضع، وهي لا تفتقر إلى الخيارات البديلة. لكن قد تزيد صعوبة مواكبة الصين ويرتفع احتمال حصول سيناريوات مشابهة من باب اليأس مستقبلاً إذا لم تطلق الحكومة مبادرات فعالة في الوقت المناسب.


MISS 3