جاد حداد

Downfall:The Case Against Boeing... وثائقي حول ممارسات "بوينغ" الشائكة

26 شباط 2022

02 : 00

في 29 تشرين الأول 2018، سقطت طائرة "ليون إير 610" في بحر "جافا" بعد وقت قصير على إقلاعها من جاكارتا، فقُتِل 189 شخصاً من ركابها وطاقمها. سرعان ما تجددت الأسئلة حول سجل شركة الطيران الإندونيسية ومؤهلات الطيارين فيها. لم يُلْقِ الكثيرون اللوم على الطائرة بحد ذاتها، فهي من طراز "بوينغ 737 ماكس".

في النهاية، تبقى شركة "بوينغ" معروفة بسمعتها الممتازة وكانت مرادفة لمعايير السلامة والأمان طوال عقود. كان الطيارون والركاب يثقون بهذه الشركة لأقصى حد. لكن بعد مرور خمسة أشهر، تحطمت طائرة أخرى من طراز "737 ماكس" في إثيوبيا.

يحقق الفيلم الوثائقي Downfall: The Case Against Boeing (السقوط المدوي: قضية ضد بوينغ) على شبكة "نتفلكس" في حادثتَي التحطم وتداعياتهما، ويفضح في الوقت نفسه ثقافة إخفاء المعلومات في شركة "بوينغ"، وهو العامل الذي حتّم وقوع الحادثتَين. الفيلم من إخراج روري كينيدي ومن كتابة مارك بايلي وكيفن ماكالستر، وهو يحمل طابعاً استقصائياً مكثفاً ويفتقر إلى الجوانب الميلودرامية ويُركّز على طرح الوقائع بأسلوب واضح وبارد ومباشر: إنه أفضل نهج للتعامل مع هذا الموضوع.

نعرف اليوم أن حادثتَي التحطم تنجمان عن تصميم سيئ في "نظام تعزيز خصائص المناورة". تعطّل هذا النظام بعد تلقي بيانات من جهاز استشعار شائب، ما دفع مقدمة الطائرة إلى الهبوط بشكلٍ متكرر رغم محاولة الطيارين اليائسة توجيهها نحو الأعلى. كانت جهودهم محكومة بالفشل. أجبرت شركة "بوينغ" الطيارين على مواجهة موقف مستحيل، فاضطروا للتعامل مع نظامٍ ما كانوا يعرفون بوجوده ولا يجيدون تشغيله خلال 10 ثوانٍ.

لم تذكر كتيّبات الطيارين أو الرحلات الجوية شيئاً عن "أنظمة تعزيز خصائص المناورة". حتى أن شركة "بوينغ" رفضت مطالب من أرادوا التدرّب على تجارب محاكاة قبل تشغيل الطائرة الجديدة، وقد تآمرت لتضليل إدارة الطيران الفدرالية حول أهمية ذلك النظام وضمان تحليق طائرتها الأكثر مبيعاً. اكتشف المحققون في نهاية المطاف رسائل متبادلة بين موظفين في "بوينغ" حيث أهانوا المراقبين وناقشوا طريقة التلاعب بهم. إنه وضع بغيض وغير مقبول، وهو ينجم طبعاً عن رغبة قوية في رفع سعر أسهم "بوينغ".

يفترض الفيلم أن عقلية الحفاظ على مصالح أصحاب الأسهم تسللت إلى شركة "بوينغ" في نهاية القرن الماضي، بعد شرائها شركة "ماكدونيل دوغلاس" في العام 1997. أدت عملية الدمج هذه إلى تصادم مدراء الشركة الثانية مع المهندسين المهتمين بمعايير السلامة في الشركة الأولى. كان المهندسون يخشون تدهور الوضع لأن المدراء التنفيذيين خففوا تركيزهم على قسم التصنيع وباتوا أكثر انشغالاً بالهندسة المالية. إنها مخاوف مبررة، لكنّ التكتيكات التي طبّقها القادة حرمت المهندسين تدريجاً من أصواتهم المؤثرة داخل الشركة. في الوقت نفسه، ركّز المدراء التنفيذيون على تخفيض النفقات واستمالوا المستثمرين في سوق الأسهم وضحّوا بمعيار السلامة لجني الأرباح.

إستمرت المقاربة نفسها رغم المأساة التي سبّبتها هذه التكتيكات، فقد حاولت شركة "بوينغ" التهرب من المحاسبة من دون أن تبذل أي جهود لمنع وقوع مأساة أخرى. يعتبر صانعو الفيلم برودة الشركة تجاه ما حصل واقعاً مثبتاً، ويؤكد هذا العامل على حجم الخلل في شركة "بوينغ" اليوم.

يستدعي الفيلم شخصيات متنوعة لسرد هذه القصة، بدءاً من صحافيين من أمثال المراسل السابق في "وول ستريت جورنال"، أندي باستور، وصولاً إلى سياسيين مثل النائب بيتر ديفازيو، رئيس لجنة النقل والبنية التحتية في مجلس النواب، وهو المشرف على تحقيقٍ يجريه الكونغرس حول حادثتَي التحطم. ينتقد الطيارون تحديداً كل ما حصل، لا سيما الطيار تشيسلي سولنبرغر الذي يعبّر عن صدمته وغضبه من قرار "بوينغ" عدم إبلاغ الطيارين حول "أنظمة تعزيز خصائص المناورة".



يشمل الفيلم أيضاً مقابلات مع أشخاص تم تهميش قصصهم خلال تغطية الحدثَين المأساويَّين، بما في ذلك عائلات اضطرت لتحمّل حزن شديد وموظفين سابقين في "بوينغ" تثبت تجاربهم طبيعة الثقافة السامة داخل الشركة.

من بين الأسماء المشارِكة، سنشاهد غاريما سيثي، أرملة قبطان طائرة "ليون إير"، بهافي سونيا، وهي تروي بكل هدوء ما عاشته حين اكتشفت مصير زوجها وتفشي ظاهرة كره الأجانب في التقارير الأولية المرتبطة بأول حادثة تحطم. في الوقت نفسه، يظهر مايكل ستومو (ماتت ابنته ساميل روز ستومو البالغة من العمر 24 عاماً في حادثة تحطم الرحلة الإثيوبية) كمدافع شرس ومتألم عن العدالة.

هذه الآراء كلها تسمح للفيلم بتسليط الضوء على حجم المأساة الإنسانية التي ترافق حوادث تحطم الطائرات وأسبابها الكامنة، ويأتي تعاطف صانعي الفيلم مع الضحايا ليرفع المنسوب العاطفي للقصص المعروضة ويقيم التوازن المناسب مع التُهَم الصارمة بتبنّي ثقافة غير أخلاقية في الشركة. يذكر الفيلم الوثائقي أن سوء الإدارة في "بوينغ" طوال عقود مهّد لوقوع تلك الكوارث. لكن ينتقد العمل أيضاً إهمال إدارة الطيران الفدرالية التي تأخرت بدورها في كشف تفاصيل تحطم الطائرة الإثيوبية.

فُرِضت غرامة مليارَي ونصف دولار على شركة "بوينغ" في العام 2021 كجزءٍ من اتفاق المقاضاة المؤجل مع وزارة العدل الأميركية، لكنها حصدت مبيعات بقيمة 76 مليار دولار خلال السنة نفسها. ساهمت هذه التسوية في حل التهمة الجنائية القائلة إن شركة "بوينغ" تآمرت لخداع إدارة الطيران الفدرالية، ما يجعلها مستعدة لإبرام عقود حكومية مستقبلية. بعبارة أخرى، كان عقاب الشركة بمثابة صفعة خفيفة تلتها مصافحة تنذر بنسيان الماضي.

في النهاية، لا مفر من الشعور بالغضب حين نستنتج أن استراتيجية النمو الكارثية في الشركة هي ميزة أساسية من الرأسمالية الأميركية المعاصرة وليست مجرّد مقاربة عابرة، ويبقى هذا الفيلم أشبه بصرخة يائسة بدل أن يكون دعوة إلى التحرك. ينجح الفيلم أخيراً في تدمير أي ثقة متبقية بمؤسسة كانت تحظى باحترام كبير وبجهات أخرى يُفترض أن تنظّم عملها. يصعب ألا نشكك إذاً بمزاعم "بوينغ" الأخيرة حول حل مشاكل طائرة "737 ماكس" واعتبارها آمنة وجاهزة للطيران.


MISS 3