ليان فيكس

ماذا لو خسرت روسيا؟

7 آذار 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

إرتكب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطأً استراتيجياً حين قرر غزو أوكرانيا، فقد أخطأ في تقدير الزخم السياسي الذي يحمله البلد، وأساء الحُكم على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وعدد من الدول الأخرى، بما في ذلك أستراليا، اليابان، سنغافورة وكوريا الجنوبية. نجحت هذه البلدان كلها في إطلاق تحرك جماعي قبيل الحرب، وهي مُصمّمة اليوم على هزم روسيا في أوكرانيا. بدأ الأميركيون وحلفاؤهم وشركاؤهم يفرضون تكاليف هائلة على موسكو. تكون كل حرب بمثابة معركة لكسب الرأي العام، وقد ربطت حرب بوتين في أوكرانيا بين روسيا وهجوم غير مبرر ضد دولة مجاورة سلمية تشهد اليوم معاناة إنسانية كبرى وجرائم حرب متشعّبة. سيكون السخط المترتب عن هذه الأحداث عائقاً دائماً أمام السياسة الخارجية الروسية مستقبلاً.

كانت الأخطاء التكتيكية التي ارتكبها الجيش الروسي لافتة بقدر إخفاق بوتين الاستراتيجي. انطلاقاً من صعوبة تقييم الوضع في المراحل الأولى من الحروب، من الواضح أن الخطط والإجراءات اللوجستية الروسية لم تكن مناسبة، وكانت قلة المعلومات التي حصل عليها الجنود والضباط في أعلى المراتب كفيلة بإحباط معنوياتهم. كان يُفترض أن تنتهي الحرب بسرعة وتُدمّر الحكومة الأوكرانية أو تدفعها إلى الاستسلام ثم تتمكن موسكو من فرض الحياد على أوكرانيا أو ضمان سيطرة الروس على البلد. كان الحد الأدنى من العنف ليترافق مع حد أدنى من العقوبات. ولو سقطت الحكومة سريعاً، لادّعى بوتين أنه كان محقاً منذ البداية: بما أن أوكرانيا لم تكن مستعدة للدفاع عن نفسها أو عجزت عن حماية أراضيها، يعني ذلك أنه محق بعدم اعتبارها دولة حقيقية.

لكن يعجز بوتين عن الفوز في هذه الحرب بالشروط التي يفضّلها. حتى أنه قد يخسر في نهاية المطاف لأسباب متنوعة. قد يقرر مثلاً توريط جيشه في احتلال مكلف وعقيم لأوكرانيا، فيُحبِط بذلك معنويات الجنود الروس، ويستنزف موارد البلد، ولا يُحقق شيئاً باستثناء إطلاق شعارات فارغة حول عظمة روسيا وإغراق بلدٍ مجاور في الفقر والفوضى. على صعيد آخر، قد يفرض بوتين درجة من السيطرة على أجزاء من شرق أوكرانيا وجنوبها أو مدينة كييف على الأرجح، تزامناً مع محاربة حركة تمرّد أوكرانية تنشط من الغرب والتورط في حرب عصابات في أنحاء البلد. هذا السيناريو يُذكّرنا بالحرب غير النظامية التي شهدتها أوكرانيا خلال الحرب العالمية الثانية. في الوقت نفسه، قد يشهد بوتين على تدهور الاقتصاد الروسي تدريجاً وتوسّع عزلته وعجزه المتزايد عن تأمين الثروات التي تتكل عليها القوى العظمى. أخيراً والأهم، قد يخسر بوتين دعم الشعب الروسي والنُخَب الروسية، علماً أنـــه يتكل على هذه الجهات لمتابعة الحرب والتمسك بالسلطة، مع أن روسيا ليست دولة ديمقراطية.



يحاول بوتين على ما يبدو إعادة ترسيخ شكلٍ من الإمبريالية الروسية. لكن من خلال أخذ هذا الرهان الشائك، يبدو أنه نسي الأحداث التي مهّدت لسقوط الإمبراطورية الروسية. خسر القيصر الروسي الأخير، نيقولا الثاني، الحرب ضد اليابان في العام 1905، ثم وقع ضحية الثورة البلشفية وخسر عرشه وحياته في آن. باختصار، لا يستطيع الحكّام المستبدون أن يخسروا الحروب ويحافظوا على سلطتهم.

منذ بدء الغزو الروسي، برع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في تأجيج مشاعر القومية الأوكرانية، ويسهل أن يوسّع الاحتلال الروسي تلك النزعة القومية عند سقوط شهداء في سبيل القضية الوطنية.

في غضون ذلك، قد تؤدي العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى فصل روسيا عن الاقتصاد العالمي. قد تتلاشى الاستثمارات الخارجية، وتزيد صعوبة جمع الرساميل، وتتوقف عمليات نقل التكنولوجيا، وتغلق الأسواق أبوابها في وجه روسيا، بما في ذلك أسواق نفطها وغازها، علماً أن هذه المبيعات كانت أساسية لتحديث الاقتصاد الروسي في عهد بوتين. كذلك، من المتوقع أن تغادر أهم المواهب في قطاع الأعمال روسيا. يسهل أن نتوقّع تداعيات هذه المرحلة الانتقالية على المدى الطويل. في هذا السياق، يكتب المؤرخ بول كينيدي في كتاب The Rise and Fall of the Great Powers (صعود وسقوط القوى العظمى)، أن هذه الدول تميل إلى خوض حروب خاطئة وتتحمل الأعباء المالية المترتبة عنها، فتحرم نفسها من النمو الاقتصادي الذي يُعتبر شريان حياة أي قوة عظمى. وإذا تغلبت روسيا على أوكرانيا، وهو أمر مستبعد، قد تُدمّر نفسها في خضم هذه العملية أيضاً.

يبقى الرأي العام الروسي عاملاً مؤثراً على تداعيات هذه الحرب. كانت سياسة بوتين الخارجية تحظى بدعمٍ واسع في الماضي. حصد قرار ضم شبه جزيرة القرم تأييداً كبيراً داخل روسيا مثلاً. قد لا تروق صرامة بوتين لجميع الروس، لكن يحبذها جزء كبير منهم. قد يبقى الوضع على حاله خلال الأشهر الأولى من حرب بوتين في أوكرانيا. ومع زيادة الخسائر البشرية على الجانب الروسي، قد يستفيد المسؤولون من الوضع، كما يحصل في جميع الحروب، لمتابعة الصراع وإطلاق حملة دعائية لمصلحتهم. وأي محاولة عالمية لعزل روسيا قد تعطي نتيجة عكسية، فيضطر الروس لربط هويتهم الوطنية بمشاعر الأسى والبغض.

لكن من المتوقع أن ترتدّ أهوال هذه الحرب على بوتين شخصياً. لم ينزل الروس إلى الشارع للاعتراض على القصف الروسي ضد مدينة حلب السورية في العام 2016 والكارثة الإنسانية التي سببتها القوات الروسية على مر الحرب الأهلية في ذلك البلد. لكن تحمل أوكرانيا معنىً مختلفاً بالكامل بنظر الروس، إذ يشمل البلدان ملايين العائلات الروسية الأوكرانية المتداخلة، ويتقاسمان روابط ثقافية ولغوية ودينية كثيرة. لا شك في أن المعلومات المرتبطة بما يحصل في أوكرانيا ستصل إلى روسيا عبر مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات أخرى، ما يعني تكذيب حملة النظام الدعائية وتشويه سمعة المسؤولين عنها. يعجز بوتين عن حل هذه المعضلة الأخلاقية عن طريق القمع وحده، لأن القمع قد يعطي نتائج عكسية أخرى. هذا ما حصل في معظم تاريخ روسيا. يكفي أن نراجع تجربة السوفيات.

لكن ستواجه أوروبا والولايات المتحدة تحديات كبرى إذا خسرت روسيا في أوكرانيا. إذا اضطرت روسيا للانسحاب يوماً، من المتوقع أن تترافق جهود إعادة إعمار أوكرانيا، تزامناً مع الاضطرار للترحيب بها في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، مع تكاليف ضخمة. يجب ألا يخذل الغرب أوكرانيا مجدداً. في المقابل، يعني فرض سيطرة روسية ضعيفة على أوكرانيا نشوء منطقة مفككة وغير مستقرة حيث يستمر القتال وتتراجع هياكل الحوكمة أو تغيب بالكامل في شرق حدود الناتو. كذلك، ستكون الكارثة الإنسانية غير مسبوقة في أوروبا منذ عقود.



في غضون ذلك، ستكون حالة روسيا الضعيفة والمُهانة مقلقة بالقدر نفسه لأنها قد تنتج دوافع انتقامية كتلك التي شهدتها ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى. وإذا حافظ بوتين على سلطته، ستصبح روسيا دولة منبوذة، أو قوة عظمى مارقة تتكل على جيش تقليدي مُهان رغم حفاظها على ترسانتها النووية. ستبقى وصمة العار ومشاعر الذنب التي خلّفتها حرب أوكرانيا قائمة في السياسة الروسية طوال عقود. نادراً ما يستفيد أي بلد من خسارة الحرب. ومن المتوقع أن يتحدد مسار روسيا وسياستها الخارجية خلال السنوات اللاحقة انطلاقاً من التكاليف غير المبررة بعد خسارة الحرب وتكبد خسائر بشرية وجيوسياسية كبرى. لكن يصعب أن نتخيل نشوء نسخة ليبرالية من روسيا بعد أهوال هذه الحرب.

حتى لو خسر بوتين سيطرته على روسيا، من المستبعد أن يتحول البلد إلى ديمقراطية موالية للغرب، بل إنه قد ينقسم، لا سيما في شمال القوقاز. أو ربما تصبح روسيا دكتاتورية عسكرية مسلحة نووياً. من حق صانعي السياسة أن يأملوا في نشوء نسخة أفضل من روسيا وفي اندماج البلد مع أوروبا بعد عهد بوتين، ويجب أن يبذلوا الجهود اللازمة لتحقيق هذا الهدف، حتى لو كانوا منشغلين بمقاومة حرب بوتين. لكن من الغباء ألا يستعدوا أيضاً لأسوأ الاحتمالات.

أثبتت التجارب التاريخية مدى صعوبة بناء نظام دولي مستقر محوره قوة انتقامية ومُهانة، لا سيما إذا كانت تلك القوة بحجم وثقل روسيا. لتحقيق هذا الهدف، يجب أن يتبنى الغرب مقاربة الاحتواء والعزل المستمر. في ظروف مماثلة، يجب أن تعطي أوروبا الأولوية لكبح روسيا وإشراك الولايات المتحدة في جهودها لأنها ستضطر لتحمّل أكبر الأعباء للسيطرة على روسيا المعزولة بعد خسارة الحرب في أوكرانيا. أما واشنطن، فيجب أن تُركّز أخيراً على الصين. قد تحاول بكين من جهتها أن تقوي نفوذها في روسيا الضعيفة، ما يؤدي إلى نشوء كتلة معادية وتوسّع الهيمنة الصينية التي يحاول الغرب تجنّبها بدءاً من العام 2020.

يُفترض ألا يرغب أحد، داخل روسيا أو خارجها، في فوز بوتين في حربه ضد أوكرانيا. من الأفضل أن يخسر طبعاً، لكنّ هزيمة روسيا ليست سبباً للاحتفال. إذا أوقفت موسكو غزوها، ستشكّل أعمال العنف التي اجتاحت أوكرانيا صدمة قوية تستمر عواقبها لأجيال عدة. لكن من المستبعد أن توقف روسيا عملية الغزو في أي وقت قريب. يُفترض أن تُركّز الولايات المتحدة وأوروبا على استغلال أخطاء بوتين عبر تقوية التحالف العابر للأطلسي، وتشجيع الأوروبيين على تحقيق رغبتهم القديمة في كسب سيادتهم الاستراتيجية، وإقناع الصين بالدروس المستخلصة من الفشل الروسي: يترافق تحدي المعايير الدولية، مثل تهديد سيادة الدول، مع تكاليف حقيقية، وتُضعِف المغامرات العسكرية الدول التي تتورط فيها.

إذا شاركت الولايات المتحدة وأوروبا يوماً في تجديد سيادة أوكرانيا وإذا نجحتا أيضاً في إقناع روسيا والصين بتبنّي رؤية مشتركة حول النظام الدولي، قد يتحول أعظم إخفاق في سجل بوتين إلى فرصة إيجابية للغرب رغم كلفتها الباهظة.