هالة نهرا

أنطوان كرباج الإنسان والفنّان كرَعَ من فمّ الضوء

21 آذار 2022

02 : 00

تحني العاصفة أمامه رأسها احتراماً لتتفتّح أكمام الزهر في الربيع في وجهه وتشرئبّ إليه الشمس. الذي لا يعرف أنطوان كرباج معرفةً شخصية فاته التقاء قامة استثنائية ثقافياً وفنياً وإنسانياً. ليس أسطورةً فحسب في المسرح وعالم التمثيل مُستلّاً منذ بداياته موهبته الخارقة من غمدها ومعمّداً إيّاها بنهر تمرّسه، بل إنه أيضاً إنسان كاريزميّ لا يتكرّر، غارَ منذ بداياته في إنسانيته حتى الأقاصي.

تعرّفتُ إليه عام 2013 وكان العظيم أنطوان كرباج رفيق سفري إلى ندوة حوارية حاضرتُ فيها في "جامعة نيويورك أبو ظبي" (NYUAD)، حيث تناولتُ الإرث الهائل للأخوين العظيمين عاصي ومنصور الرحباني ضمن فعاليات مهرجان أبو ظبي 2013 (رواق الفكر)، وكان أنطوان من ضيوف شرف المهرجان. إلى جانبي كان في الندوة أيضاً الراحل الكبير غازي قهوجي والفنان أسامة الرحباني الذي تفاعل الجمهور النخبويّ مع حضوره وكلمته بحرارة ودينامية، علماً بأنّ الأستاذ هنري زغيب أدار الندوة.

كان أنطوان العملاق يصغي إلى كل حرفٍ بحكمة وروعة، ومن شدّة تواضع هذا العملاق كان يقول لي في الاستراحة إنه لا يحبّ القعود طوال الوقت في الصفوف الأمامية لكنّه كان يضطر غالباً.

يومياً، منذ الصبحية، كان يتوجّه رأساً إلى الـ"Lobby" ويتصل بي لنشرب القهوة معاً ونتحادث. أخلاقه رفيعة وذوقه ممهورٌ بالزهو والليلك وسلوكه أنيق جداً مثل آخر الفرسان النبلاء. عندما استُقبلنا هناك في صالون الشرف في المطار فرحَ وتأثّر أنطوان معبّراً عن ذلك لاحقاً: "تكريمهم الفنانين والمبدعين والمثقفين يشفّ عن أدبهم ورفعتهم وأصالتهم"... وفور عودتنا إلى مطار لبنان قال لنا: "أبو ظبي كانت صحرا وعملوها جنّة، ولبنان كان جنّة وعملوه السياسيين الحاكمين عنّا صحرا". هذه الجملة ظلّ يردّدها طويلاً أمامي وأمام آخرين في بيروت بعد ذلك في لقاءاتٍ عدّة خلال سنة 2013 تحديداً.

في مقاهي بيروت كان يتجمهر روّاد الأمكنة والنوادل والمارّة أمام النجم الكبير لالتقاط بعض الصور معه وكان أنطوان يرحّب بالناس كلّهم بلا أدنى تأفّف أو انزعاج هامساً: "محبّة الناس نعمة من الله". لطالما حدّثني أنطوان بشغف عن قريته زبّوغا وعن شعراء الزجل (أنطوان يعشق الزجل)، لا سيما خليل روكز، وعن سرّ قوّة صوته تحديداً وسطوة حنجرته في المسرح وتجربته مع منير أبو دبس، وكيفية إصدار الصوت بمِلء الرئتين وتمارين التنفّس البَطْنيّ، ودور أكياس الرمل في التدريبات. أنطوان بذاته مرجعٌ ومدرسةٌ تدّخر خبرةً ذهبية يدمغها التفوّق، ومطّلعٌ حتى الأغوار على تجارب عالمية زاخرة.

قبل أن يحضر تسبقه إليك بسمته كأنّ الرجل الموجوع من أحوال بلدنا يأبى إلاّ أن يصافح النور. الغصّة في حلقه أنّ المبدع الحقيقي في لبنان لا يكرَّم إلاّ بعد وفاته من باب رفع العتاب وأنّ الدولة لا ترعى ولا تدعم ولا تؤدّي واجبها تجاه المثقفين والأدباء والشعراء والفنانين. أنطوان كرباج ترعاه النجوم في الليالي المقمرة. أمَا آن لكم أصدقائي وأحبتي في الإعلام والمسؤولية أن تردّوا لهذا الرجل - الذي أعطى لبنان مجداً خالداً في أدوار الخشبة- بعضاً من حقّه عبر تكريمه بكتاباتٍ منصفة موضوعية عنه وعن تجلّياته في الفن والحياة؟ أطال الله عمر هذا الذي يصمت في زمن الضجيج والاستعراض. أنطوان كرباج يبقى بهيّاً ومشوّقاً في أعماله رغم أنّ عدداً كبيراً حفظ بعضها عن ظهر قلب. يستحق أنطوان إلى الأبد محبتنا الغامرة وتصفيقاً حارّاً أمام كل هذا التاريخ المشرّف. يبقى حضوره في ذاكرتنا نضراً ومعتَّقاً آناً بعد آن. ذلك الذي كرَعَ من فم الضوء يستأهل إضاءةً ترشف ضياءه وأفياءه.


MISS 3