توفيق شمبور

في الأزمنة المأزومة تطفو الانحرافات المذمومة

"الليلرة" و"الهيركات" لتذويب الودائع واطفاء الخسائر!

21 آذار 2022

02 : 00

نبيه بري ورياض سلامة... على من تقع مسؤولية عدم إقرار قانون الكابيتال كونترول؟ ولماذا لم يُقرّ بداية الأزمة؟

* صندوق النقد: «الحفاظ على سلامة النقد» كلام إنشائي وغير قانوني.

* التحديد الإداري من قِبل مصرف لبنان لأي سعر صرف للدولار غير قانوني وغير جائز له إتيانه.

* الاستقرار المنشود من التعميم 151 لم يتحقق بدليل الانتقال من 3900 إلى 8000.

* في التعميمين 151 و158 إدارة هجينة لحسابات المودعين بمخالفات قانونية فاقعة للغاية.

* "المصلحة العامة" أمر يخرج عن صلاحية المصرف المركزي والتقدير فيه هو للسلطة السياسية.

* عملاً بالقاعدة القانونية لا يمكن لمصرف لبنان التحجج بظروف هي من صنعه أو مشاركته بها.

* اعتمد البنك المركزي وحدد أسعار صرف متعددة للدولار من دون أي سند قانوني.

* مخالفة قانونية في إلزام مصرف لبنان أصحاب الحسابات بالعملات الأجنبية بقبول الليرة في تسديد المصارف لسحوباتهم.

* لا يجوز لمصرف لبنان التدخل لتعديل الاتفاق المُبرم بين المصرف وصاحب الحساب بالعملة الأجنبية.

* الليلرة والهيركات أمران مخالفان للدستور وقانونَي التجارة والنقد والتسليف.




«في الازمنة المأزومة تطفو الانحرافات المذمومة»، قول للكاتب الفرنسي Rene Sedillot المتخصص بتأريخ الاحداث النقدية والمصرفية.

في لبنان راجت منذ اندلاع الازمة ممارسات وانحرافات غير مألوفة في ادارة القطاع المصرفي، من الضروري توثيقها عبرة للابناء والاحفاد، واضافتها كفصل خاص عن لبنان الى فصول الدول الاخرى في مؤلفات مؤرخي الازمات النقدية والمصرفية.

فبعد حوالى الستة اشهر من اندلاع الازمة، وبالتحديد في21 نيسان 2020، صدر عن مصرف لبنان القرار الاساسي رقم 13221 بعنوان: «اجراءات استثنائية حول السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الاجنبية» وقد وضع موضع التنفيذ بذات التاريخ بالتعميم الاساسي رقم 151.

قضى القرار المذكور انه في حال طلب أي عميل اجراء اية سحوبات أو عمليات صندوق نقدا من الحسابات، أو من المستحقات العائدة له بالدولار الاميركي او بغيرها من العملات الاجنبية، فانه يتعين على المصرف المعني، شـرط موافقة العميل، ان يقـوم بتسـديد ما يوازي قيمتها بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر /3900 / ل ل تعدل لاحقا فاصبح /8000 / ل ل للدولار الاميركي الواحد وذلك ضمن سقف /5000 / د.أ ثم/3000/ د.أ. للحساب الواحد شهرياً.

بعد حوالى السنة، بالتحديد في 8 حزيران 2021 صدر عن مصرف لبنان قرار اساسي آخر رقمه 13335 وضع بالتنفيذ بالتعميم رقم 158 وحمل ذات العنوان السابق «اجراءات استثنائية لتسديد تدريجي لودائع بالعملات الاجنبية».

القرار المذكور طالب كل مصرف عامل في لبنان ان يقوم بما يلزم لتأمين تسديد تدريجي للودائع بالعملات الاجنبية المكونة في الحسابات المفتوحة قبل31/10/2021

وفقا لشروط وآلية حددها القرار. وتضمنت تسديد مبلـغ شــهري يبلغ400 د.أ. يضاف اليه مبلغ يوازي 400 د.أ. يدفع بالليرة اللبنانية علـى اسـاس سـعر 12000 ليرة لبنانية للد.أ الواحد، يدفع منه 50 % «لصاحب الحساب» نقدا و50% بواسطة بطاقـة مصرفية.

القراران السابقان يمكن التعليق عليهما (1) في الحيثيات (2) في القانون و(3) في التقييم

(اولا) في الحيثيات

1. القراران صدرا كما تذكر حيثياتهما بالاستناد الى المادتين 70 و174 من قانون النقد والتسليف (ن ت)

(المادة 70 ن ت )

تنص هذه المادة على ان مصرف لبنان مكلف بالحفاظ sauvegarde على «سلامة النقد». وقد اعتبر صندوق النقد الدولي في احد تقاريره ان التعبير المذكور انشائي لا قانوني، ولا يصلح التأسيس عليه، والمطلوب تعديله على نحو يبين وجود موجب قانوني اكثر وضوحا وقابلاً للمساءلة هو «تحقيق الاستقرار في الاسعار».

مجريات الامور اظهرت ان الاستقرار المنشود من التعميم 151 لم يتحقق. واكبر دليل الاضطرار لاحقا الى رفع سعر الصرف الذي اعتمده بحوالى الضعفين من /3900 / ل ل الى 8000 / ل ل للــدولار الاميركي بعد ان ارتفع سعر صرفه في السوق الموازي الى ما فوق العشرين الفا وبلغ حتى الثلاثين الفا.

(المادة 174)

تتحدث هذه المادة عن استخدام مصرف لبنان الوسائل الهادفة الى «تأمين تسيير عمل مصرفي سليم»، وايضا «وضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها».

من التدقيق في القرارين موضوع التعميمين 151 و158، يتبين انهما يخرجان كليا عن الغاية والاطار اللذين كانا بذهن واضعي نص المادة 174 عند صياغتها.

فالسيد جوزيف اوغورليان الذي ترأس اللجنة القانونية والفنية التي وضعت مشروع قانون النقد والتسليف واسبابه الموجبة، وكان اول من شغل منصب النائب الاول لحاكم مصرف لبنان بعد انشائه يذكر في الصفحة 220 من كتابه المعنون:

Une Monnaie, un Etat

Histoire de la Monnaie Libanaise

ان صياغة المادة 174 تمت على نحو يمنح فيه مصرف لبنان سلطة يتمتع بها عدد من المصارف المركزية في حينه، وهي «الاشراف على المصارف التجارية دون ان يكون له، اي لمصرف لبنان، حق التدخل immixtion بادارة المصارف، بل تحفظ الحرية الكاملة للاخيرة في العمل». وقد شبه المرحوم اوغورليان اطار تدخل مصرف لبنان بمقتضى المادة 174 كـ»وضع قانون عام للسير» ينص على «قواعد عامة للقيادة» دون الدخول في التفاصيل.

في الرجوع الى قراري التعميمين 151 و158، يتضح انهما يتضمنان تفصيلات عديدة تتعلق بادارة هجينة لحسابات المودعين ما يجعلهما بالنهاية مخالفين بشكل فاقع للغاية التي توخاها واضعو نص المادة 174، والتي هي كما ذكر السيد اوغرليان «الاشراف العام surveillance على اعمال المصرف دون الانغماس والتدخل immixtion في تفصيلات ادارته للحسابات وعملياته».

حتى ولنفرض ان تفسير مصرف لبنان للمادة 174 نقد وتسليف يسمح له باجراء التقييدات المتنوعة في حركة الحسابات، فان السؤال البديهي الذي يطرح نفسه هو التالي: لماذا لم يستند مصرف لبنان اذا على تفسيره هذا للمادة 174 ن ت لتقييد حركة حسابات الـ PEPs (الاشخاص المكشوفون سياسيا) والـ Insiders (الاشخاص الذين بامكانهم الوصول الى المعلومات الخاصة) وسائر المحظيين، ومنعهم من تحويل مليارات الدولارات للخارج، ليعود ويستدرك الامر ويطالب المصارف بـ»حث» من حولوا اموالهم للخارج برد قسم منها؟؟؟ على نقيض ما فعل مع سائر المودعين حيث الزمهم بقيود متنوعة غير قانونية لتحريك حساباتهم؟؟؟

جدير بالذكر ان «المادة 174 ن ت تتحدث عن تفويض مصرف لبنان وضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها». لكن الذي حصل انه بعد صدور القرارين موضوع التعميمين 151 و158 زادت اعداد منازعات المودعين مع المصارف وتنوعت وتضخمت.

2. يؤسس القراران موضوع التعميمين 151 و158 على ان ما قضيا به يحقق (ا) «المصلحة العامة» في (ب) «الظروف الاستثنائية» التي تمر بها البلاد.

البروفسور joseph Stiglitz حائز جائز Nobel للاقتصاد لعام 2001، يرى في بحث له عن الدعم والقروض المدعومة التي تمنحها بعض المصارف المركزية ان التقرير في ما خص «المصلحة العامة» هو امر يخرج عن صلاحية المصرف المركزي والتقدير فيه هو للسلطة السياسية.

ايضا لا يستطيع مصرف لبنان الاستناد الى فكرة «الظروف الاستثنائية» لتقرير ما قرر به، عملا بالمبدأ القائل انه لا يمكن للمرء الاحتجاج بظروف هي من صنعه او مشاركته بها عملا بالقاعدة القانونية القائلة:

عدم جواز التأسيس على خطأ شخصي للحصول على افادة او منفعة.

والقاصي والداني يعلم بان الازمة اللبنانية مردها سياسات خاطئة ارتكبت من قبل مراجع عدة. وكان بالامكان تفاديها لو انتهج مصرف لبنان نهجا مغايرا وحازما، وقد ادت هذه السياسات الى فجوة سالبة في ميزانياته تقدر بما يفوق السبعين مليار دولار وهي الاساس في الازمة.

(ثانيا) في القانون

قرارا مصرف لبنان موضوع التعميمين 151 و158 تضمنا مخالفات قانونية فاقعة عدة هي التالية:

(1) اعتمادهما اسعار صرف متعددة للدولار محددة من قبل مصرف لبنان بدون اي سند قانوني.

حجة مصرف لبنان وحتى بعد اندلاع الازمة المالية ان ثبات قيمة سعر صرف الدولارعلى 1500 ل ل للدولار الواحد (والمعتبر ببياناته انه سعر الصرف الرسمي باعتباره معلنا من قبل مديرية القطع في المصرف)، هو ان هذا السعر تحدد بنتيجة عمليات مصرف لبنان مع المصارف وحجمها اكبر بكثير من عمليات السوق الموازية (السوداء). ويجب بالتالي اعتماده في علاقة المصارف مع مودعيها ؟؟... فاذا كان الامر كذلك فكيف يمكن تبرير تجاوز مصرف لبنان الضمني هذه المقولة وتحديده سعرين مختلفين لصرف الدولار في التعميمين 151 و158 الى جانب الاستمرار باعتماد سعر الصرف الرسمي 1500 ل ل للدولار الواحد ؟

واضح ان جميع اسعار الصرف السابقة ليست نتيجة اي عمليات سوق او تبادل كما سبق ذكره وكما يقتضيه قانون البورصة، وواضح ايضا انه قد تم تحديد سعري صرف قراري التعميمين 151 و158 اداريا من قبل مصرف لبنان وذلك خصيصا لغايات هذين التعميمين، وهما ادنى بكثير من اسعار صرف الدولار التي يتم التعامل بها بذات الوقت ان من خلال منصة «صيرفة» او في السوق الموازية (السوداء).

ان التحديد fixation الاداري من قبل مصرف لبنان لاي سعر صرف للدولار غير قانوني وغير جائز للاخير اتيانه. فالمادة 75 من قانون النقد والتسليف تتحدث عن استعمال المصرف وسائل لتأمين ثبات stabilite القطع، اي حصر تأرجح معدلات سعر الصرف ضمن حدود معينة متفق عليها مع الحكومة، وليس عن تحديد مصرف لبنان لسعر صرف ثابت، فالامر الاخير لا يجوز الا بموجب قانون كما اشار الى ذلك القانونان المنشوران بالمرسومين 6104 و6105 تاريخ 5 ت1 1973، واللذان صدرا بعد فك السلطات الاميركية في مطلع سبعينات القرن المنصرم ارتباط الدولار بالذهب خلافا لما سبق الاتفاق عليه في Breton Woods في الاربعينات. ايضا يتضمن مشروع قانون موازنة عام 2022 احكاما خاصة تقضي بتحديد سعر صرف محدد للدولار في مجالات معينة.

(2) ان الزام مصرف لبنان اصحاب الحسابات المفتوحة بالعملات الاجنبية بقبول الليرة اللبنانية في تسديد المصارف لسحوباتهم من هذه الحسابات هو امر غير قانوني:

اول اشارة الى التوجه الى «ليلرة « السحوبات صدرت عن حاكم مصرف لبنان في بداية شهر كانون الثاني 2020 في برنامج «صار الوقت» مع الاعلامي مارسال غانم. اذ ذكر ان المصرف بامكانه سداد الودائع التي تلقاها بالعملة الاجنبية بالليرة اللبنانية لكن دون الاشارة على اساس اي سعر صرف للدولار.

بعد هذا التصريح مباشرة توقفت المصارف عن رد ودائع الناس اليهم بالعملة الاجنبية. وقامت بسدادها بالليرة اللبنانية مستندة الى تصريح الحاكم وعلى اساس 1500 ل ل للدولار الواحد.

وقد تم آنذاك تدعيم موقفي الحاكم والمصارف بالاشارة الى المادة 192 ن ت التي تخضع من يمتنع عن قبول العملة اللبنانية التي تتمتع حسب المادة 7 ن ت بقوة ابرائية غير محدودة للعقوبات المنصوص عليها في المادة 319 من قانون العقوبات.

التوجه السابق وجد صدى لدى رجال القانون والقضاء واعتمده عدد من الاحكام القضائية. بيد ان التدقيق في الامور يظهر للاسف عدم صوابية التحليلات القانونية في جميع المواقف السابقة.

فالوديعة المتلقاة بالعملة الاجنبية يجب ردها من قبل المصرف عملا بالمادة 307 من قانون التجارة بذات العملة، وبالليرة اللبنانية عند قبول المودع بذلك، وفي الحالة الاخيرة يكون الرد بسعر مبيع الدولار في التعاملات الواقعية وليس وفق سعر محدد معين من قبل مصرف لبنان كما هو مقرر في القرارين موضوع التعميمين 151 و158.

القوة الاإبرائية

اما ما تنص عليه المادة 7 ن ت في ما خص القوة الابرائية للاوراق النقدية من فئة الليرة وما فوق، فهو اعلان يسري فقط على الالتزامات بالليرة اللبنانية وليس على ايفاء الالتزامات المحررة بالعملة الاجنبية، لان الامر يتطلب في الحالة الاخيرة اضافة فقرة على المادة 7 السابقة تفيد عن سعر الصرف الذي يتعين اعتماده للعملة الاجنبية عند السداد بما يعادلها بالليرة اللبنانية، تماما كما فعلت المادة R 30-11 من قانون العقوبات الفرنسي المقابلة للمادة 319 عقوبات لبناني، وفي غياب هذه الاضافة لا يمكن اعمال المادة الاخيرة 319 لان قانون العقوبات هو قانون خاص ولا يجوز التوسع بتفسيره وتطبيقه بشكل عام الا عند اكتمال جميع عناصر المخالفة في مادة العقاب.

هذا ما ذهبت اليه الاستاذة Laure Nurit Pontier المتخصصة في الاشكاليات القانونية للتعامل بالعملة الاجنبية في الصفحة 125 من كتابها المعنون Le Statut Juridique de La Monnaie Etrangère:

وقد اوردت الاستاذة في الصفحة التالية رقم 126 من كتابها مقطعا من رسالة الدكتوراه للسيدة Charlotte Béquignon وهي اول امراة تتولى منصب قاض في فرنسا وتحمل اسمها احدى قاعات محكمة باريس المدنية.

عنوان رسالة الاخيرة La dette de monnaie étrangère والمقطع المقتطف منها يذكر ان ايفاء الدين المحرر بالعملة الاجنبية بذات العملة يكون مؤكدا في حال وجود اتفاق على ان الايفاء يتم بالعملة الاجنبية لا بالعملة الوطنية.

وكانت الاستاذة Pontier قد سبق لها ان ذكرت في الصفحة 33 من كتابها ان قبول الطرفين المصرف والمودع التعامل بالعملة الاجنبية عند فتح الحساب، يعني ضمنا (ا) قبولهما باعتماد العملة الاجنبية كضمان ضد اي تراجع في سعر صرف العملة الوطنية و(ب) تأكد المصرف من قدرته على توفير العملات الاجنبية عند طلبها في الوقت المتفق عليه.

وعليه لا يجوز لمصرف لبنان التدخل لتعديل الاتفاق المبرم بين المصرف وصاحب الحساب بالعملة الاجنبية، الا في حال وجود نص قانوني صريح يسمح له بذلك، ويكون الامرعندئذ مسيجا بكافة الضمانات المطلوبة كأن ينص القانون المحكي عنه بامكانية رد المبلغ المطلوب سحبه بالليرة اللبنانية على سعر مبيع لا شراء الدولار في اسواق المعاملات الواقعية.

(3) ان الزام مصرف لبنان اصحاب الحسابات المفتوحة بالعملات الاجنبية بقبول اقتطاعات مهمة من سحوباتهم haircut، نتيجة الزامهم بقبولها بالليرة اللبنانية وبسعر صرف اقل من معدلاته الواقعية، امر غير مقبول ويخالف الدستور وقانوني التجارة والنقد والتسليف:

• الدستور الذي ينص في مقدمته على المساواة بين المواطنين وان النظام الاقتصادي حر يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة. كما تنص المادة 15 منه على ان الملكية في حمى القانون فلا يجوز أن ينزع عن أحد ملكه إلا لأسباب المنفعة العامة في الأحوال المنصوص عليها في القانون وبعد تعويضه منه تعويضاً عادلاً.

• قانون التجارة في المادة 307 منه التي تنص على ضرورة ان يرد المصرف الوديعة التي يتلقاها بقيمة تعادلها دفعة واحدة او عدة دفعات عند اول طلب من المودع... ولا يمكن تعديل ما سبق الا بموافقة المودع الحرة المجردة من اي ضغط اقتصادي او بنص قانوني لا اداري غير ذي صفة وصلاحية كما هو الحال في قراري التعميمين 151 و158.

• قواعد اساسية وردت في الاسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف اوردها المرحوم جوزيف اوغورليان في الصفحة 218 من كتابه المذكور اعلاه.

القواعد المشار اليها تقضي بضرورة توفير المصرف الثقة لدى اي مودع بان امواله سيستردها من المصرف تماما كما لو انه يستعيد ماله «نقدا as good as cash» من «صندوقه الخاص»، ما يستدعي من المصرف حسن اختيار مجالات توظيف اموال مودعيه على نحو يمكنه من تسييلها عند اللزوم وبدون خسارة.

جدير بالذكر ان حاكم مصرف لبنان اعلن صراحة رفضه للهيركات haircut في اطلالته التلفزيونية في 30 نيسان 2020 اي بعد 10 ايام فقط من صدور التعميم 151 ذاكرا التالي حرفيا «لا ضرورة ابدا للهيركات haircut والكلام عنه هو لارهاب المودعين الامر الذي يؤخر اقلاع القطاع المصرفي» !!!

(ثالثا) في التقييم

واضح مما سبق بيانه ان القرارين موضوع التعميمين 151 و158 لا يستندا الى مرتكزات سليمة لا في الحيثيات ولا في القانون. وهما لم يتوخيا ابدا تحقيق مصالح المودعين، بالاقتطاعات التي فرضاها والتي تراوحت ما بين الـ 40 والـ 60 بالمئة من قيمة سحوباتهم بالعملات الاجنبية من خلال «ليلرة» هذه السحوبات جزئيا او كليا (اي تحويلها الى الليرة اللبنانية) بسعر صرف للدولار مقابل الليرة اقل من سعره في السوق الموازي، وهي فجوة مرشحة للاتساع مع الوقت وتدهور قيمة الليرة.

المصلحة العامة؟

ايضا لا يمكن القول بان القرارين السابقين يرميان الى تحقيق المصلحة العامة بأفضل الحلول المناسبة توخيا لضبط حجم الكتلة النقدية المعروضة في الاسواق، وبالتالي لجم التضخم من خلال تقييد حجم السحوبات من الحسابات بالعملات الاجنبية والتي تبلغ حوالى الـ 80% من مجمل الحسابات، اذ ان التقييد المذكور يمكن دائما الوصول اليه باعتماد سعر الصرف الواقعي للدولار عند «ليلرة» السحوبات من دون اية حاجة لاعتماد اي عملية هيركات على هذه السحوبات، كما حصل عند تعديل التعميم 151 بتخفيض حدود السحب من خمسة الاف دولار الى ثلاثة الاف دولار شهريا نتيجة رفع سعر صرف الدولار من 3900 الى 8000 ل ل.

المصالح الحقيقية!

ان الحقيقة التي لا يمكن انكارها هي ان القرارين موضوع التعميمين 151 و158 بالشكل الذي صدرا فيه يرميان بالحقيقة الى تحقيق مصالح مرجعيات اخرى هي (1) المصارف و(2) مصرف لبنان و(3) أهل السلطة.

(1) المصارف بتذويب التزاماتها تجاه اصحاب الحسابات بالعملات الاجنبية من خلال رد فقط ما بين الـ 40 والـ 60 بالمئة من قيمة سحوباتهم بفعل «ليلرتها» على النحو السابق.

(2) مصرف لبنان من خلال الزام المصارف بان تبيــع اليه العمــلات الاجنبيـة الناتجــة عــن السحوبات السابقة التي تمت «ليلرتها» توطئة لاستعمالها في اطفاء خسائر المصرف وذلك في تخريجات لا يقرها، لآثارها التضخمية المتأتية من الانحراف في اعمال مطبعة النقد ومجافاتها لقواعد علمية راسخة ومعتبرة، لا المتخصصين بقضايا النقد والمصارف المركزية ولا قواعد المحاسبة الرائجة في تنظيم عمليات المصارف المركزية والواردة في اوراق عمل عدة، صادرة عن بنك التسويات الدولية الـ BIS المعتبر بنك البنوك المركزية. ايضا عبر ممثلو صندوق النقد الدولي للفريق المفاوض عن الدولة اللبنانية حول خطة التعافي تحفظهم عن عملية «الليلرة» بسعر صرف منخفض للدولار توسلا لاطفاء خسائر مصرف لبنان للاجحاف الذي تلحقه هذه العملية بالمودعين ولآثارها التضخمية.

(3) اهل السلطة حتى لا يخسروا من شعبيتهم امام اللبنانيين في حال اقرارهم لاي نوع من انواع الهيركات haircut باعتبارهم المعنيين دستورا وقانونا باقرار التقييدات على رأس المال، واول من عبر عن هذا الامر الرئيس نبيه بري في 14 نيسان 2020 قبل اسبوع من صدور التعميم الاول ذي الصلة رقم 151 حيث دعا «الى الترحم على الهيركات»، لا بل اعلن «انه شخصيا من اشد المعارضين له ولن يمر في المجلس النيابي الذي لن يشرع النصب والسطو على اموال المودعين ومدخراتهم»... فتولى للاسف مصرف لبنان هذه المهمة الاخيرة بالنيابة وبتغطية من الجميع!

الجميع بدءاً من مفوض الحكومة لدى مصرف لبنان، فوزيري المالية والعدل فرئيس الحكومة انتهاء برئيس الجمهورية الذي دعا الى اجتماع مالي في القصر الجمهوري حضره رئيس مجلس الشورى وحاكم مصرف لبنان للنظر بالقرار الذي صدر عن المجلس الاخير بايقاف العمل مؤقتا بالقرار موضوع التعميم 158 نتيجة الطعن فيه المقدم من المحامي الدكتور باسكال ضاهر، وفي ختام الاجتماع صرح حاكم مصرف لبنان ان عناصر جديدة اضيفت الى الملف دون ان يفصح عنها استدعت الغاء قرار المجلس وانتهى الامر عند هذا الحد.

جدير بالذكر ان موضوع الهيركات haircut اعتبر في قبرص قضية وطنية. لذا تم عرضها على استفتاء شعبي خاص للتقرير بشأنها. اما في لبنان فقد اعتمد الهيركات بقرار من مصرف لبنان ولم تحرك ساكنا بشأنه اي من المراجع الادارية والوزارية والرئاسية وحتى القضائية السالفة الذكر.


الخلاصة: انحرافات فوق التصور

تنص المادة 208 من قانون النقد والتسليف على انه اذا خالف مصرف احكام القانون الاخير.. يحق للهيئة المصرفية العليا المنشأة لدى المصرف المركزي ان تنزل بالمصرف المخالف العقوبات الادارية التالية: التنبيه - تعيين مراقب او مدير مؤقت - شطبه من لائحة المصارف، ولا يحول ذلك دون تطبيق الغرامات والعقوبات الجزائية.

اما المادة 209 ن ت فتنص على عدم قبول قرارات الهيئة اي طريقة من طرق المراجعة العادية وغير العادية الادارية او القضائية.

من جهة اخرى تنص المادة 123 ن ت على خضوع الودائع التي يتلقاها المصرف لاحكام المادة 307 من قانون التجارة التي تلزمه برد الوديعة التي يتلقاها بقيمة تعادلها دفعة واحدة او عدة دفعات حسب طلب المودع المعبر عنه بارادة حرة مجردة من اي ضغط اقتصادي او قرار اداري غير ذي صفة وصلاحية، كما هو الحال في قراري التعميمين 151 و158.

الطريف الغريب في الامر، ان مصرف لبنان وخلافا للدستور وللقانون سمح للمصارف بالقرارين الاخيرين باجراء هيركات haircut على الحسابات المفتوحة بالعملات الاجنبية لديها، الرئيس بري ذاته اعلن «انه من قبيل النصب والسرقة ولا يمكن ان يمر في المجلس النيابي» في حين انه، اي مصرف لبنان، مطالب هو بمقتضى المادة 208 المعطوفة على المادة 123 نقد وتسليف والمادة 307 تجارة، بملاحقة مرتكبي مخالفات المادة الاخيرة، ومنها بالطبع عمليات الهيركات haircut واحالتهم على الهيئة المصرفية العليا لانزال العقوبات المناسبة!

بالطبع لا يمكن هنا الاحتجاج بما ورد في القريرين موضوع التعميمين 151 و158 من ان اعمالهما قائم على صدور موافقة مسبقة من المودع تضمن مصلحته اذ ان استرداده لوديعته كان يجب ان يحصل على اساس سعر صرف 1500 ل ل للدولار الواحد وهو ادنى بكثير من المعروض كسعر صرف للدولار في القرارين موضوع التعميمين 151 و158.

فقد سبقت الاشارة الى (1) ان تثبيت مصرف لبنان لسعر صرف الدولار على اساس 1500 ل ل هو امر فاقد للسند القانوني، وان ردهة بورصة بيروت هي المكان المخصص لعمليات القطع والاعلان عن اسعارها الواقعية اليومية بنهاية عمليات التبادل. و(2) ان فتح المودع لحساب بالعملة الاجنبية هو لتفادي اي تدهور في قيمة سعر صرف العملة الوطنية. وبالتالي الحفاظ على القيمة الحقيقية لوديعته وهذا لا يكون الا باعتماد سعر صرف الدولار في المعاملات الواقعية وهو ما يجب ان يفهم في تنفيذ المصرف لالتزامه في المادة 307 تجارة برد الوديعة بقيمة تعادلها الى صاحبها.

وبالتالي فان موافقة المودع المسبقة والمشترطة في القرارين موضوع التعميمين 151 و158 لا يمكن تفسيرها الا من قبيل الابتزاز الذي يستحيل الاعتداد به، لان لا أحد يوافق بارادة حرة على «اي نصب او سرقة» من حساباته، على حد قول الرئيس نبيه بري.


MISS 3